كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

وَيُقَالُ ثَالِثًا: إنْ كَانَ بَعْضُ هَذَا مَأْخُوذًا عَنْ نَبِيٍّ، فَمِنْ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ أَضْعَافَ مَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ الَّذِي فِي ذَلِكَ أَضْعَافُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ الَّذِي عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيمَا يَأْثَرُونَهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ تَيَقَّنَّا قَطْعًا أَنَّ أَصْلَ دِينِهِمْ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ كَمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ.
وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَكَذَبُوا وَكَتَمُوا. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَ الْوَحْيِ الْمُحَقَّقِ، وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ يَقِينًا، مَعَ أَنَّهَا أَقْرَبُ إلَيْنَا عَهْدًا مِنْ إدْرِيسَ، وَمَعَ أَنَّ نَقَلَتَهَا أَعْظَمُ مِنْ نَقَلَةِ النُّجُومِ، وَأَبْعَدُ عَنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، وَأَبْعَدُ عَنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ، فَمَا الظَّنُّ بِهَذَا الْقَدْرِ إنْ كَانَ فِيهِ مَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ إدْرِيسَ؟ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ وَالتَّحْرِيفِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» . فَإِذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ لَا نُصَدِّقَ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ الْحَقُّ، كَمَا لَا نُكَذِّبُ إلَّا بِمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَصْدِيقُ هَؤُلَاءِ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ إدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبْعَدُ عَنْ عِلْمِ الصِّدْقِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَيُقَالُ رَابِعًا: لَا رَيْبَ أَنَّ النُّجُومَ نَوْعَانِ: حِسَابٌ وَأَحْكَامٌ، فَأَمَّا الْحِسَابُ وَهُوَ

الصفحة 68