كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

ابْتَدَعَ لَهُمْ بِدَعًا أَفْسَدَ بِهَا دِينَهُمْ، وَكَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا لِقَصْدِ إفْسَادِهَا، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سَبَأٍ يَهُودِيًّا فَفَسَدَ ذَلِكَ وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ، لِقَصْدِ إفْسَادِ الْمِلَّةِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ، لَكِنْ حَصَلَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْرِيشٌ وَفِتْنَةٌ قُتِلَ فِيهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَجَرَى مَا جَرَى مِنْ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَجْمَعْ اللَّهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ، بَلْ لَا تَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا، وَلَا مَنْ خَذَلَهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الصِّحَاحِ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَمَّا أَحْدَثَتْ الْبِدَعَ الشِّيعَةُ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّهَا، وَكَانَتْ ثَلَاثَةَ طَوَائِفَ غَالِيَةٌ وَسَبَّابَةٌ وَمُفَضِّلَةٌ، فَأَمَّا الْغَالِيَةُ فَإِنَّهُ حَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ، فَإِنَّهُ خَرَجَ ذَات يَوْمٍ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ فَسَجَدَ لَهُ أَقْوَامٌ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أَنْتَ هُوَ اللَّهُ، فَاسْتَتَابَهُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَأَمَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِأَخَادِيدَ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ فِيهَا النَّارَ، ثُمَّ قَذَفَهُمْ فِيهَا.
وَقَالَ:
لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا ... أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرًا
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا أَتَى بِزَنَادِقَتِهِمْ فَحَرَّقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْت لَمْ أُحَرِّقْهُمْ «لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ» ، وَلَضَرَبْت أَعْنَاقَهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» .
وَأَمَّا السَّبَّابَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ سَبَأٍ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، طَلَبَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ إلَى قُرَقْيِسَا وَكُلِّمَ فِيهِ، وَكَانَ عَلِيٌّ يُدَارِي أُمَرَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا، وَلَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ. وَأَمَّا الْمُفَضِّلَةُ، فَقَالَ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ ".

الصفحة 71