كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ عَلِيًّا رَوَى هَذَا التَّفْضِيلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ قَدْ كُذِبَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ الَّتِي لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهَا إلَى أَقَلِّ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى أَضَافَتْ إلَيْهِ الْقَرَامِطَةُ، وَالْبَاطِنِيَّةُ، وَالْحَزْمِيَّةُ، وَالْمَزْدَكِيَّةُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة، وَالنُّصَيْرِيَّةُ مَذَاهِبَهَا الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْسَدِ مَذَاهِبِ الْعَالَمِينَ، وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا أَحْدَثَهُ الْمُنَافِقُونَ الزَّنَادِقَةُ الَّذِينَ قَصَدُوا إظْهَارَ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاسْتَتْبَعُوا الطَّوَائِفَ الْخَارِجَةَ عَنْ الشَّرَائِعِ، فَكَانَتْ لَهُمْ دُوَلٌ، وَجَرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فِتَنٌ، حَتَّى قَالَ ابْنُ سِينَا: إنَّمَا اشْتَغَلْت فِي عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ؛ لِأَنَّ أَبِي كَانَ مِنْ أَهْلِ دَعْوَةِ الْمِصْرِيِّينَ، يَعْنِي مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ الرَّافِضَةِ الْقَرَامِطَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَحِلُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ الْفَلْسَفِيَّةَ، وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْبُعْدِ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّبُوَّاتِ اتِّصَالًا وَانْضِمَامًا، يَجْمَعُهُمْ فِيهِ الْجَهْلُ الصَّمِيمُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
فَإِذَا كَانَ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْقَرِيبِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ قَدْ كُذِبَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَأُضِيفَ إلَيْهِمْ مِنْ مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ بَرَاءَتَهُمْ مِنْهُ، وَنَفَقَ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مُنْتَسِبَةٍ إلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، مَعَ وُجُودِ مَنْ يُبَيِّنُ كَذِبَ هَؤُلَاءِ وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، وَيَذُبُّ عَنْ الْمِلَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَاللِّسَانِ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمَا يُضَافُ إلَى إدْرِيسَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أُمُورِ النُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، وَتَنَوُّعِ الْحَدَثَانِ، وَاخْتِلَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ، وَعَدَمِ مَنْ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَاشْتِمَالِ ذَلِكَ عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ. وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ نَجْمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِالْعَقْرَبِ وَالْمِرِّيخِ، وَأُمَّتِهِ

الصفحة 72