كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 1)

الْعِبَادِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ إلَّا مَا أَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ، وَغُلَاتُهُمْ الْمُكَذِّبُونَ بِتَقَدُّمِ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، إلَّا أَنَّ الظُّلْمَ مِنْهُ هُوَ نَظِيرُ الظُّلْمِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَشَبَّهُوهُ وَمَثَّلُوهُ فِي الْأَفْعَالِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، حَتَّى كَانُوا هُمْ مُمَثِّلَةَ الْأَفْعَالِ، وَضَرَبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْأَعْلَى، بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ وَحَرَّمُوا مَا رَأَوْا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ وَيَحْرُمُ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالرَّأْيِ، وَقَالُوا عَنْ هَذَا: إذَا أَمَرَ الْعَبْدَ، وَلَمْ يُعِنْهُ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعَانَةِ كَانَ ظَالِمًا لَهُ، وَالْتَزَمُوا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِيَ ضَالًّا، كَمَا قَالُوا: إنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُضِلَّ مُهْتَدِيًا، وَقَالُوا عَنْ هَذَا: إذَا أَمَرَ اثْنَيْنِ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِإِعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ظَالِمًا، إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، جَعَلُوا تَرْكَهُ لَهَا ظُلْمًا. وَكَذَلِكَ ظَنُّوا أَنَّ التَّعْذِيبَ لِمَنْ كَانَ فِعْلُهُ مُقَدَّرًا ظُلْمٌ لَهُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ التَّعْذِيبِ لِمَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ خَلْقَهُ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ، فَقَالُوا: لَيْسَ لِلظُّلْمِ مِنْهُ حَقِيقَةٌ يُمْكِنُ وُجُودُهَا، بَلْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ لِذَاتِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ هُوَ تَارِكٌ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَجَعْلِ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ، وَقَلْبِ الْقَدِيمِ مُحْدَثًا، وَالْمُحْدَثِ قَدِيمًا، وَإِلَّا فَمَهْمَا قُدِّرَ فِي الذِّهْنِ وَكَانَ وُجُودُهُ مُمْكِنًا وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِظُلْمٍ مِنْهُ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَتَلَقَّى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ هَؤُلَاءِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ شُرَّاحِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ، وَفَسَّرُوا هَذَا الْحَدِيثَ بِمَا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا بِظَاهِرٍ مِنْ أَقْوَالٍ مَأْثُورَةٍ، كَمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ: مَا نَاظَرْت بِعَقْلِي كُلِّهِ أَحَدًا إلَّا الْقَدَرِيَّةَ، قُلْت لَهُمْ: مَا الظُّلْمُ؟ قَالُوا أَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَك، أَوْ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِيمَا لَيْسَ لَك، قُلْت: فَلِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ إيَاسٍ إلَّا لِيُبَيِّنَ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الْوَاقِعَةَ هِيَ فِي مُلْكِهِ، فَلَا يَكُونُ ظُلْمًا بِمُوجَبِ حَدِّهِمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ

الصفحة 77