كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 2)

وَأَصْلُ هَذَا: أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ: هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قِيلَ: يَثْبُتُ. وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ، وَقِيلَ: يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] . وَقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . وَلِقَوْلِهِ: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا حَتَّى يُبَلِّغَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ.
وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَآمَنَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرًا مِمَّا جَاءَ بِهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعَذِّبْهُ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ عَلَى بَعْضِ شَرَائِطِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ.
فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ «أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ظَنُّوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] هُوَ الْحَبْلُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْحَبْلِ الْأَسْوَدِ. فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْبِطُ فِي رِجْلِهِ حَبْلًا. ثُمَّ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ هَذَا مِنْ هَذَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُرَادَ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ.
وَكَذَلِكَ «عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَمَّارٌ أَجْنَبَا، فَلَمْ يُصَلِّ عُمَرُ حَتَّى أَدْرَكَ الْمَاءَ؛ وَظَنَّ عَمَّارٌ أَنَّ التُّرَابَ يَصِلُ إلَى حَيْثُ يَصِلُ الْمَاءُ فَتَمَرَّغَ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ وَلَمْ يَأْمُرْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ» ، وَكَذَلِكَ أَبُو ذَرٍّ بَقِيَ مُدَّةً جُنُبًا لَمْ يُصَلِّ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَكَذَلِكَ «الْمُسْتَحَاضَةُ قَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً تَمْنَعُنِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، فَأَمَرَهَا بِالصَّلَاةِ زَمَنَ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ» ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالْقَضَاءِ.

الصفحة 19