كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 2)

الصَّلَاةِ لِيُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ بِوُضُوءٍ، أَوْ غُسْلٍ: بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْفَرْضُ وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ إذَا اسْتَحَلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوَقْتِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ لِإِمْكَانِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا إلَّا لِنَاوٍ لِجَمْعِهَا أَوْ مُشْتَغِلٍ بِشَرْطِهَا، فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَصْحَابِ، بَلْ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَائِرِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ فَهَذَا أَشُكُّ فِيهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا فِيهِ صُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، كَمَا إذَا أَمْكَنَ الْوَاصِلُ إلَى الْبِئْرِ أَنْ يَضَعَ حَبْلًا يَسْتَقِي، وَلَا يَفْرُغُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ؛ وَإِذَا أَمْكَنَ الْعُرْيَانَ أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا وَلَا يَفْرُغَ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ، وَنَحْوُ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِي قَالَهُ فِي ذَلِكَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ، وَخِلَافُ قَوْلِ جَمَاعَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَمَا أَعْلَمُ مِنْ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِاشْتِغَالِ بِالشَّرْطِ لَا يُبِيحُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ شَرْعًا، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَطْلُبَ الْمَاءَ وَهُوَ لَا يَجِدُهُ إلَّا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأْخِيرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالشَّرْطِ. وَكَذَلِكَ الْعُرْيَانُ لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَرْيَةٍ لِيَشْتَرِيَ لَهُ مِنْهَا ثَوْبًا، وَهُوَ لَا يُصَلِّي إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّأْخِيرُ بِلَا نِزَاعٍ.
وَالْأُمِّيُّ كَذَلِكَ إذَا أَمْكَنَهُ تَعَلُّمُ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ لَا يَتَعَلَّمُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْ تَعَلُّمِ التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدِ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَلَّى بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ.
وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ لَوْ كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ لَوْ كَانَ دَمُهَا يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ لِتُصَلِّيَ بِطَهَارَةٍ بَعْدَ الْوَقْتِ؛ بَلْ تُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا حَيْثُ جَازَ الْجَمْعُ فَالْوَقْتُ وَاحِدٌ، وَالْمُؤَخِّرُ لَيْسَ بِمُؤَخِّرٍ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ فِعْلُهَا فِيهِ؛ بَلْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْجَمْعُ إلَى النِّيَّةِ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ.

الصفحة 36