كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 2)

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ:
إنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُهُ، وَيَجُوزُ فِطْرُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عِنْدَ الْحَائِلِ عَنْ رُؤْيَةِ الْفَجْرِ جَائِزٌ. فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ أَكَلَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ طُلُوعَ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ؟ أَمْ لَا؟ إنْ شَاءَ تَوَضَّأَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَتَوَضَّأْ. وَكَذَلِكَ إذَا شَكَّ هَلْ حَالَ حَوْلُ الزَّكَاةِ؟ أَوْ لَمْ يَحُلْ؟ وَإِذَا شَكَّ هَلْ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِائَةٌ؟ أَوْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ؟ فَأَدَّى الزِّيَادَةَ.
وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا مُحَرَّمٍ، ثُمَّ إذَا صَامَهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، أَوْ بِنِيَّةٍ مُعَلَّقَةٍ، بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ عَنْ رَمَضَانَ، وَإِلَّا فَلَا. فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهِيَ الَّتِي نَقَلَهَا الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ فِي شَرْحِهِ لِلْمُخْتَصَرِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي:
إنَّهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا بِنِيَّةِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا الْقَاضِي، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ: هَلْ هُوَ وَاجِبٌ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَحَدُهَا:
أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ رَمَضَانَ، فَإِنْ صَامَ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، أَوْ مُعَلَّقَةٍ، أَوْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ النَّذْرِ، لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ. وَالثَّانِي:
يُجْزِئُهُ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ:
أَنَّهُ يُجْزِئُهُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، لَا بِنِيَّةِ تَعْيِينِ، غَيْرِ رَمَضَانَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ، وَأَبِي الْبَرَكَاتِ.
وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لَمْ يُجِزْهُ: لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاءَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلِمَ وُجُوبَهُ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ.

الصفحة 456