كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 2)

وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْفِطْرَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُفْطِرِ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ.
وَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُفْطِرَ عَلَيْهِ إثْمٌ، فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ، وَخِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
وَهَكَذَا السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ أَنَّهُ يُصَلِّي الرَّبَاعِيَةَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ التَّرْبِيعِ، عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ: كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ.
وَلَمْ تَتَنَازَعْ الْأُمَّةُ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ؛ بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الصِّيَامِ لِلْمُسَافِرِ، فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الصَّائِمَ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ، وَأَنَّهُ إذَا صَامَ لَمْ يُجْزِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» . لَكِنْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ، وَأَنْ يُفْطِرَ. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فَلَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَمَا يَكْرَهُ

الصفحة 466