كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25] فَإِنَّمَا أَبَاحَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَأَمَّا الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّاتِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ خِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَالْوَثَنِيَّاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: يُبَاحُ وَطْءُ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كُنَّ، وَأَظُنُّ هَذَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ فِي وَطْءِ الْأَمَةِ الْوَثَنِيَّةِ نِزَاعًا، وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَلَيْسَ فِي وَطْئِهَا مَعَ إبَاحَةِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ نِزَاعٌ، بَلْ فِي التَّزَوُّجِ بِهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّزَوُّجِ بِهِنَّ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ التَّسَرِّي بِهِنَّ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ، وَلَا يَقُولُهُ فَقِيهٌ، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِنَّ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ، فَبَقِيَ حِلُّ وَطْئِهِنَّ عَلَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُنَازِعُ فِي حِلِّ نِكَاحِهِنَّ بِقَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] وَقَوْلِهِ: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] إنَّمَا يَتَنَاوَلُ النِّكَاحَ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي الْقِيَاسِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُنَّ، فَيَبْقَى الْحِلُّ عَلَى الْأَصْلِ.
الثَّانِي: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] . يَقْتَضِي عُمُومَ جَوَازِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ، حَتَّى أَنَّ عُثْمَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ جَعَلُوا مِثْلَ هَذَا النَّصِّ مُتَنَاوِلًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، حِينَ قَالُوا: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، فَإِذَا كَانُوا قَدْ

الصفحة 105