كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

جَعَلُوا عَامًّا فِي صُورَةٍ حَرُمَ فِيهَا النِّكَاحُ فَلَا يَكُونُ عَامًّا فِي صُورَةٍ لَا يَحْرُمُ فِيهَا النِّكَاحُ أَوْلَى وَأَحْرَى.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حِلِّ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ، وَيَحْرُمُ التَّسَرِّي بِهِنَّ، بَلْ قَدْ قِيلَ: يَحِلُّ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، حَيْثُ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي النِّكَاحِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمَةَ مُجْمَعٌ عَلَى التَّسَرِّي بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَرْجَحَ مِنْ حِلِّ النِّكَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ دُونَهُ فَلَوْ حَرُمَ التَّسَرِّي دُونَ النِّكَاحِ كَانَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: إنَّ حِلَّ نِكَاحِهِنَّ يَقْتَضِي حِلَّ التَّسَرِّي بِهِنَّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ وَطْؤُهَا بِالنِّكَاحِ جَازَ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ أَوْسَعُ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ، وَالنِّكَاحُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى عَدَدٍ، وَمَا حَرُمَ فِيهِ الْجَمْعُ بِالنِّكَاحِ قَدْ نُوزِعَ فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ فِيهِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَسَمٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ فِي عَزْلٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ نَوْعُ رِقٍّ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ رِقٌّ تَامٌّ.
وَأَبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَهْلُ الْكِتَابِ نِسَاءَهُمْ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نَوْعُ رِقٍّ، كَمَا قَالَ عُمَرُ: النِّكَاحُ رِقٌّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» .
فَجَوَّزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْكَافِرَةَ، وَلَمْ يُجَوِّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَسْتَرِقَّ هَذِهِ الْمُسْلِمَةَ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، كَمَا جَوَّزَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْلِكَ الْكَافِرَ وَلَمْ يُجَوِّزْ لِلْكَافِرِ أَنْ يَمْلِكَ الْمُسْلِمَ، فَإِذًا جَوَازُ وَطْئِهِنَّ مِنْ مِلْكٍ تَامٍّ أَوْلَى وَأَحْرَى.

الصفحة 106