كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تَحْرُمُ الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ لَا» . وَمِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، نُسِخَتْ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ» وَمَا حُجَّتُهُمَا مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؟
الْجَوَابُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ، وَحَدِيثِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، فَيَكُونُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ، فَيَحْتَاجُ إلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَقِيلَ: يُحَرِّمُ الثَّلَاثُ فَصَاعِدًا وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحِ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» قَالُوا مَفْهُومُهُ: أَنَّ الثَّلَاثَ تَحْرُمُ، وَلَمْ يَحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قُرْآنٌ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُتَوَاتِرٍ، فَقَالَ لَهُمْ الْأَوَّلُونَ مَعَنَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مُثْبَتَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ حُكْمًا، وَكَوْنُهُ قُرْآنًا، فَمَا ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ يَثْبُتُ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَهَذَا لَمْ نُثْبِتْهُ وَلَمْ نَتَصَوَّرْ أَنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ إنَّمَا نُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، فَقَالَ أُولَئِكَ: هَذَا تَنَاقُضٌ وَقِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ صَحِيحٌ، وَأَيْضًا فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ نَفَى قُرْآنًا لَكِنْ بَيَّنَ حُكْمَهُ.

الصفحة 168