كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

وَثَانِيهَا " أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ إنَّمَا هُوَ اسْتِفْتَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّزَوُّجِ بِزَانِيَةٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبُ النُّزُولِ خَارِجًا مِنْ اللَّفْظِ،؟ "
الثَّالِثُ " إنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الزَّانِي لَا يَطَأُ إلَّا زَانِيَةً، أَوْ الزَّانِيَةُ لَا يَطَؤُهَا إلَّا زَانٍ، كَقَوْلِهِ: الْآكِلُ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَأْكُولًا، وَالْمَأْكُولُ لَا يَأْكُلُهُ إلَّا آكِلٌ، وَالزَّوْجُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِزَوْجَةٍ، وَالزَّوْجَةُ لَا يَتَزَوَّجُهَا إلَّا زَوْجٌ؛ وَهَذَا كَلَامٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ.
" الرَّابِعُ " أَنَّ الزَّانِيَ قَدْ يَسْتَكْرِهُ امْرَأَةً فَيَطَؤُهَا فَيَكُونُ زَانِيًا وَلَا تَكُونُ زَانِيَةً، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ قَدْ تَزْنِي بِنَائِمٍ وَمُكْرَهٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا يَكُونُ زَانِيًا.
" الْخَامِسُ " أَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَا قَدْ عَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بِآيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وَتَحْرِيمُهُ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُنَزَّلَ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَحْرِيمِهِ.
" السَّادِسُ " قَالَ: {لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] " فَلَوْ أُرِيدَ الْوَطْءُ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى ذِكْرِ الْمُشْرِكِ فَإِنَّهُ زَانٍ، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكَةُ إذَا زَنَى بِهَا رَجُلٌ فَهِيَ زَانِيَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْسِيمِ.
" السَّابِعُ " أَنَّهُ قَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى أَنْ يَذْكُرَ تَحْرِيمَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ ، وَأَمَّا " النَّسْخُ " فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَائِفَةٌ: نَسَخَهَا قَوْلُهُ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] .
وَلَمَّا عَلِمَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَجِدُوا مَا يَنْسَخُهَا، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ قَالُوا: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْسَخُ النُّصُوصَ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مَضْمُونُهُ أَنَّ الْأَمَةَ يَجُوزُ لَهَا تَبْدِيلُ دِينِهَا بَعْدَ نَبِيِّهَا، وَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى: أُبِيحَ لِعُلَمَائِهِمْ أَنْ يَنْسَخُوا مِنْ شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ مَا يَرَوْنَهُ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِمَّنْ يَظُنُّ الْإِجْمَاعَ مَنْ يَقُولُ: الْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى نَصٍّ نَاسِخٍ لَمْ يَبْلُغْنَا؛ وَلَا حَدِيثَ إجْمَاعٍ فِي خِلَافِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكُلُّ مَنْ عَارَضَ نَصًّا بِإِجْمَاعٍ وَادَّعَى نَسْخَهُ

الصفحة 179