كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

مِنْ غَيْرِ نَصٍّ يُعَارِضُ ذَلِكَ النَّصَّ فَإِنَّهُ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَبَيَّنَ أَنَّ النُّصُوصَ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا بِنَصٍّ بَاقٍ مَحْفُوظٍ عِنْدَ الْأُمَّةِ. وَعِلْمُهَا بِالنَّاسِخِ الَّذِي الْعَمَلُ بِهِ أَهَمُّ عِنْدَهَا مِنْ عِلْمِهَا بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَحِفْظُ اللَّهِ النُّصُوصَ النَّاسِخَةَ أَوْلَى مِنْ حِفْظِهِ الْمَنْسُوخَةَ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ فَإِنَّ كَوْنَهَا زَانِيَةً وَصْفٌ عَارِضٌ لَهَا، يُوجِبُ تَحْرِيمًا عَارِضًا: مِثْلُ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً، وَمُعْتَدَّةً، وَمَنْكُوحَةً لِلْغَيْرِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ، وَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ لَكَانَتْ كَالْوَثَنِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا تَحْرُمُ الْمَرْأَةُ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَقَّتًا؛ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِإِنْكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ؛ وَهُوَ أَمْرٌ بِإِنْكَاحِهِنَّ بِالشُّرُوطِ الَّتِي بَيَّنَهَا وَكَمَا أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ فِي الْعِدَّةِ وَالْإِحْرَامِ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَتُوبَ.
وَقَدْ احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: «إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ. فَقَالَ طَلِّقْهَا. فَقَالَ: إنِّي أُحِبُّهَا. قَالَ: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» . الْحَدِيثَ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤَوِّلُ " اللَّامِسَ " بِطَالِبِ الْمَالِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ. لَكِنَّ لَفْظَ " اللَّامِسِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ مَنْ مَسَّهَا بِيَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فَإِنَّ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَكُونُ فِيهَا تَبَرُّجٌ، وَإِذَا نَظَرَ إلَيْهَا رَجُلٌ أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا لَمْ تَنْفِر عَنْهُ، وَلَا تُمَكِّنُهُ مِنْ وَطْئِهَا.
وَمِثْلُ هَذَا نِكَاحُهَا مَكْرُوهٌ؛ وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهَا، فَإِنَّ هَذِهِ لَمْ تَزْنِ، وَلَكِنَّهَا مُذْنِبَةٌ بِبَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ؛ فَجَعَلَ اللَّمْسَ بِالْيَدِ فَقَطْ. وَلَفْظُ " اللَّمْسِ، وَالْمُلَامَسَةِ " إذَا عُنِيَ بِهِمَا الْجِمَاعُ لَا يُخَصُّ بِالْيَدِ، بَلْ إذَا قُرِنَ بِالْيَدِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] .

الصفحة 180