كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

وَأَيْضًا فَاَلَّتِي تَزْنِي بَعْدَ النِّكَاحِ لَيْسَتْ كَاَلَّتِي تَتَزَوَّجُ وَهِيَ زَانِيَةٌ؛ فَإِنَّ دَوَامَ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ ابْتِدَائِهِ. وَالْإِحْرَامُ وَالْعِدَّةُ تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الدَّوَامِ فَلَوْ قَدَّرَ أَنَّهُ قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يَجِبُ فِرَاقُهَا، لَكَانَ الزِّنَا كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ دُونَ الدَّوَامِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] ؟ قِيلَ: الْمُتَزَوِّجُ بِهَا إنْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ زَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا فَهُوَ كَافِرٌ. فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ تَحْرِيمِ هَذَا وَفِعْلِهِ فَهُوَ زَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مُشْرِكٌ، كَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ الْبَغَايَا. يَقُولُ: فَإِنْ تَزَوَّجْتُمْ بِهِنَّ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ مُشْرِكُونَ، وَإِنْ اعْتَقَدْتُمْ التَّحْرِيمَ فَأَنْتُمْ زُنَاةٌ. لِأَنَّ هَذِهِ تُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهَا غَيْرَ الزَّوْجِ مِنْ وَطْئِهَا، فَيَبْقَى الزَّوْجُ يَطَؤُهَا كَمَا يَطَؤُهَا أُولَئِكَ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ اشْتَرَكَ فِي وَطْئِهَا رَجُلَانِ فَهِيَ زَانِيَةٌ، فَإِنَّ الْفُرُوجَ لَا تَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ، بَلْ لَا تَكُونُ الزَّوْجَةُ إلَّا مُحْصَنَةً.

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُتَزَوِّجُ بِالزَّانِيَةِ زَانِيًا كَانَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ أَعْظَمُ مِمَّا يُذَمُّ الَّذِي يَزْنِي بِنِسَاءِ النَّاسِ، وَلِهَذَا يَقُولُ فِي " الشَّتْمَةِ ": سَبَّهُ بِالزَّايِ وَالْقَافِ. أَيْ قَالَ: يَا زَوْجَ الْقَحْبَةِ، فَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَتَشَاتَمُ بِهِ النَّاسُ، لِمَا قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُبْحِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُبَاحًا؟ ، وَلِهَذَا كَانَ قَذْفُ الْمَرْأَةِ طَعْنًا فِي زَوْجِهَا، فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ بِبَغِيٍّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَعْنًا فِي الزَّوْجِ، وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا كَافِرَةً، وَلَمْ يُبَحْ تَزَوُّجُ الْبَغِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تُفْسِدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرَةِ، وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُلَاعِنَ مَكَانَ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ وَأُسْقِطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِلِعَانِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ» .
وَاَلَّذِي يَتَزَوَّجُ بِبَغِيٍّ هُوَ دَيُّوثٌ، وَهَذَا مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَى ذَمِّهِ وَعَيْبِهِ بِذَلِكَ جَمِيعَ

الصفحة 181