كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

" وَأَيْضًا " فَإِذَا كَانَ عَادَتُهُ الزِّنَا اسْتَغْنَى بِالْبَغَايَا، فَلَمْ يَكْفِ امْرَأَتُهُ فِي الْإِعْفَافِ، فَتَحْتَاجُ إلَى الزِّنَا.
" وَأَيْضًا " فَإِذَا زَنَى بِنِسَاءِ النَّاسِ طَلَبَ النَّاسُ أَنْ يَزْنُوا بِنِسَائِهِ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ، فَامْرَأَةُ الزَّانِي تَصِيرُ زَانِيَةً مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ اسْتَحَلَّتْ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ كَانَتْ مُشْرِكَةً؛ وَإِنْ لَمْ تَزْنِ بِفَرْجِهَا زَنَتْ بِعَيْنِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ فِي نِسَاءِ الرِّجَالِ الزُّنَاةِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الزِّنَا الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنْهُ امْرَأَةٌ سَلِيمَةٌ سَلَامَةً تَامَّةً، وَطَبْعُ الْمَرْأَةِ يَدْعُو إلَى الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ إذَا رَأَتْ زَوْجَهَا يَذْهَبُ إلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ» . فَقَوْلُهُ: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً} [النور: 3] إمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ نَفْسَ نِكَاحِهِ وَوَطْئِهِ لَهَا زِنًا، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى زِنَاهَا. وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَنَفْسُ وَطْئِهَا مَعَ إصْرَارِهَا عَلَى الزِّنَا زِنًا.
وَكَذَلِكَ { {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] : الْحَرَائِرُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُنَّ الْعَفَائِفُ. فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْمُحْصَنَاتُ بِالْحَرَائِرِ. وَبِالْعَفَائِفِ وَهَذَا حَقٌّ. فَنَقُولُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5] . " الْمُحْصَنَاتُ " قَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هُنَّ الْعَفَائِفُ. هَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُنَّ الْحَرَائِرُ.
وَلَفْظُ (الْمُحْصَنَاتُ) إنْ أُرِيدَ بِهِ " الْحَرَائِرُ " فَالْعِفَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِحْصَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْمُحْصَنَةِ هِيَ الْعَفِيفَةُ الَّتِي أُحْصِنَ فَرْجُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23]

الصفحة 184