كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

وَقَالَ غَيْرُهُمَا: مُتَعَفِّفِينَ غَيْرَ زَانِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي النِّسَاءِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] . فَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اُشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ بِكَسْرِ الصَّادِ. {وَالْمُحْصِنُ " هُوَ الَّذِي يُحْصِنُ غَيْرَهُ؛ لَيْسَ هُوَ الْمُحْصَنُ بِالْفَتْحِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي الْحَدِّ. فَلَمْ يُبَحْ إلَّا تَزَوُّجُ مَنْ يَكُونُ مُحْصِنًا لِلْمَرْأَةِ غَيْرَ مُسَافِحٍ وَمَنْ تَزَوَّجَ بِبَغِيٍّ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الْبِغَاءِ وَلَمْ يُحْصِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ - بَلْ هِيَ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ النِّكَاحِ تَبْغِي مَعَ غَيْرِهِ - فَهُوَ مُسَافِحٌ بِهَا لَا مُحْصِنٌ لَهَا. وَهَذَا حَرَامٌ بِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ إنَّك تَبْتَغِي بِمَالِك النِّكَاحَ لَا تَبْتَغِي بِهِ السِّفَاحَ فَتُعْطِيهَا الْمَهْرَ عَلَى أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَك لَيْسَ لِغَيْرِك فِيهَا حَقٌّ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَيْتهَا عَلَى أَنَّهَا مُسَافِحَةٌ لِمَنْ تُرِيدُ، وَإِنَّهَا صَدِيقَةٌ لَك تَزْنِي بِك دُونَ غَيْرِك فَهَذَا حَرَامٌ؟ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ مَقْصُودُهُ أَنَّهَا تَكُونُ لَهُ؛ لَا لِغَيْرِهِ، وَهِيَ لَمْ تَتُبْ مِنْ الزِّنَا: لَمْ تَكُنْ مُوفِيَةً بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ يُحْصِنُهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا، فَيُسْكِنُهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا الزِّنَا؟ قِيلَ: أَمَّا إذَا أَحْصَنَهَا بِالْقَهْرِ فَلَيْسَ هُوَ بِمِثْلِ الَّذِي يُمَكِّنُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الرِّجَالِ، وَدُخُولِ الرِّجَالِ إلَيْهَا؛ لَكِنْ قَدْ عُرِفَ بِالْعَادَاتِ وَالتَّجَارِبِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ لَهَا إرَادَةٌ فِي غَيْرِ الزَّوْجِ احْتَالَتْ إلَى ذَلِكَ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَتُخْفِي عَلَى الزَّوْجِ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ عَقْلَ الزَّوْجِ بِمَا تُطْعِمُهُ، وَرُبَّمَا سَحَرَتْهُ أَيْضًا، وَهَذَا كَثِيرٌ مَوْجُودٌ: رِجَالٌ أَطْعَمَهُمْ نِسَاؤُهُمْ، وَسَحَرَتْهُمْ نِسَاؤُهُمْ، حَتَّى يُمْكِنَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ؛ وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَذْهَبَ هُوَ إلَى غَيْرِهَا: فَهِيَ تَقْصِدُ مَنْعَهُ مِنْ الْحَلَالِ، أَوْ مِنْ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ.
وَقَدْ تَقْصِدُ أَنْ يُمْكِنَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا شَاءَتْ فَلَا يَبْقَى مُحْصِنًا لَهَا قَوَّامًا عَلَيْهَا؛ بَلْ تَبْقَى هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِيمَنْ تَزَوَّجَتْ وَلَمْ تَكُنْ بَغِيًّا: فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَتْ بَغِيًّا؟ ، وَالْحِكَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَيَا لَيْتَهَا مَعَ التَّوْبَةِ يَلْزَمُ مَعَهُ دَوَامُ التَّوْبَةِ: فَهَذَا إذَا أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُهَا، وَقِيلَ لَهُ: أَحْصِنْهَا، وَاحْتَفِظْ أَمْكَنَ ذَلِكَ. أَمَّا بِدُونِ التَّوْبَةِ فَهَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ.

الصفحة 186