كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

فِيهِمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، وَالشَّهَادَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ عِنْدَهُمْ قَدْ أَمَرَ اللَّه فِيهَا بِإِشْهَادِ ذَوَيْ الْعَدْلِ، فَكَيْفَ بِالْإِشْهَادِ الْوَاجِبِ؟ ، ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ " بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ " وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ يُؤْمَرُونَ بِهِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يُوجِبُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي الرَّجْعَةِ، وَاَللَّهُ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ؛ لِئَلَّا يُنْكِرَ الزَّوْجُ وَيَدُومَ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَيُفْضِيَ إلَى إقَامَتِهِ مَعَهَا حَرَامًا؛ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى طَلَاقٍ لَا رَجْعَةَ مَعَهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُسَرِّحُهَا بِإِحْسَانٍ عَقِيبَ الْعِدَّةِ فَيَظْهَرَ الطَّلَاقُ.
وَلِهَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ مِمَّا يَعِيبُ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِشْهَادِ فِي الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ؛ وَهُمْ أَمَرُوا بِهِ فِي النِّكَاحِ دُونَ الْبَيْعِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ. وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِإِشْهَادٍ وَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ أُمِرَ فِيهِ بِالْإِعْلَانِ فَأَغْنَى إعْلَانُهُ مَعَ دَوَامِهِ عَنْ الْإِشْهَادِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، فَكَانَ هَذَا الْإِظْهَارُ الدَّائِمُ مُغْنِيًا عَنْ الْإِشْهَادِ كَالنَّسَبِ؛ فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَ فِيهِ أَحَدًا عَلَى وِلَادَةِ امْرَأَتِهِ؛ بَلْ هَذَا يَظْهَرُ وَيُعْرَفُ أَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ هَذَا فَأَغْنَى هَذَا عَنْ الْإِشْهَادِ؛ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَجْحَدُ وَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَظْهَرُ فِيهِ كَانَ إعْلَانُهُ بِالْإِشْهَادِ. فَالْإِشْهَادُ قَدْ يَجِبُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يُعْلِنُ وَيَظْهَرُ؛ لَا لِأَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ؛ بَلْ إذَا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثُمَّ خَرَجَا فَتَحَدَّثَا بِذَلِكَ وَسَمِعَ النَّاسُ، أَوْ جَاءَ الشُّهُودُ وَالنَّاسُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَأَخْبِرُوهُمْ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا: كَانَ هَذَا كَافِيًا. وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَةُ السَّلَفِ، لَمْ يَكُونُوا يُكَلَّفُونَ إحْضَارَ شَاهِدَيْنِ، وَلَا كِتَابَةَ صَدَاقٍ.

وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِالْإِيجَابِ مِنْ اشْتِرَاطِ شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَّا مَنْ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ: فَهَذَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. وَقَدْ شَذَّ بَعْضُهُمْ فَأَوْجَبَ مَنْ يَكُونُ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَطْعًا، فَإِنَّ أَنْكِحَةَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَلْتَزِمُونَ فِيهَا هَذَا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى قَوْلِهِ بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ. فَقِيلَ: يُجْزِئُ فَاسِقَانِ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: يُجْزِئُ مَسْتُورَانِ، وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: فِي الْمَذْهَبِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ. وَقِيلَ: بَلْ إنْ عَقَدَ حَاكِمٌ فَلَا يَعْقِدُهُ إلَّا بِمَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ الْحُكَّامَ هُمْ

الصفحة 190