كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

[تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ سِنِينَ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَكَانَ وَلِيُّ نِكَاحِهَا فَاسِقًا]
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ سِنِينَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا، وَكَانَ وَلِيُّ نِكَاحِهَا فَاسِقًا، فَهَلْ يَصِحُّ عَقْدُ الْفَاسِقِ، بِحَيْثُ إذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ نِكَاحِ غَيْرِهِ، أَوْ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ؟ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَوَلِيٍّ مُرْشِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ؟
أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، إنْ كَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْوَلِيِّ هَلْ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا، لِيَجْعَلَ فِسْقَ الْوَلِيِّ ذَرِيعَةً إلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ يُصَحِّحُونَ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ، وَأَكْثَرُهُمْ يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ فِي مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ، بَلْ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ. وَإِذَا فَرَّعَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ فِيهِ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِلَّ الْحَلَالَ مَنْ يُحَرِّمُ الْحَرَامَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ حَلَالًا حَرَامًا، وَهَذَا الزَّوْجُ كَانَ يَسْتَحِلُّ وَطْأَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَلَوْ مَاتَتْ لَوَرِثَهَا، فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَكَيْفَ يَعْمَلُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى فَسَادِهِ؟ فَيَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا إذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي صِحَّتِهِ، فَاسِدًا إذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ فِي فَسَادِهِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ الشَّيْءِ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَافَقَ غَرَضَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَمَنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ فِي الْحَالَيْنِ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُطَلِّقُونَ لَا يُفَكِّرُونَ فِي فَسَادِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ إلَّا عِنْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، لَا عِنْدَ الِاسْتِمْتَاعِ وَالتَّوَارُثِ، يَكُونُونَ فِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُفْسِدُهُ، وَفِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُصَحِّحُهُ؛ بِحَسَبِ الْغَرَضِ وَالْهَوَى، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ هَذَا حَلَفَ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ، فَلْيَذْكُرْ يَمِينَهُ لِيُفْتِيَ بِمَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ حَنِثَ وَوَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَفِي الْحِنْثِ مَسَائِلُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَالْأَخْذُ بِقَوْلٍ سَائِغٍ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ الدُّخُولِ فِيمَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ.
وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَعْتَقِدَ الرَّجُلُ ثُبُوتَ شُفْعَةِ الْجِوَارِ إذَا كَانَ طَالِبًا لَهَا، وَعَدَمَ ثُبُوتِهَا إذَا كَانَ مُشْتَرِيًا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا مَنْ بَنَى

الصفحة 204