كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

عَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ فِي حَالِ نِكَاحِهِ وَبَنَى عَلَى فَسَادِ وِلَايَتِهِ فِي حَالِ طَلَاقِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَوْ قَالَ الْمُسْتَفْتِي الْمُعَيَّنُ: أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ذَلِكَ. وَأَنَا مِنْ الْيَوْمِ أَلْتَزِمُ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفْتَحُ بَابَ التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ، وَفَتْحِ الذَّرِيعَةِ. إلَى أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ.

[نِكَاح الشِّغَارِ]
وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ أُخْتَهُ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ شَرْطِ عَدَمِ الْمَهْرِ فَصُحِّحَ النِّكَاحُ، وَأَوْجَبَ مَهْرَ الْمِثْلِ. وَآخَرُونَ قَالُوا: إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْبُضْعِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ يَصِيرُ بُضْعُهَا مَمْلُوكًا لِزَوْجِهَا، وَلِلزَّوْجَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَصْدَقَتْهُ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مِلْكُ الزَّوْجَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إنْ سَمَّوْا مَهْرًا صَحَّ النِّكَاحُ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ قَالَ وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرٌ لِلْأُخْرَى فَسَدَ وَإِلَّا لَمْ يَفْسُدْ.
وَالصَّوَابُ أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ فَاسِدٌ، كَمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ مِنْ صُوَرِهِ مَا إذَا سَمَّوْا مَهْرًا وَغَيْرَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَشْرُوطًا فِي نِكَاحِ الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَتْ هِيَ لَمْ تَمْلِكْهُ وَإِنَّمَا مَلَكَهُ وَلِيُّهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْمَهْرِ لِوَلِيِّهَا وَهُوَ إنَّمَا أَخَذَ بُضْعًا. وَفِي ذَلِكَ مَفَاسِدُ.
أَحَدُهَا: اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْمَهْرِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ عَدَمِ تَسْمِيَتِهِ، وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ نَفْيِهِ.
فَالْأَوَّلُ: لَا يَفْسُدُ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّانِي: يَفْسُدُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَالثَّانِي: إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُحَابَاةً لِلْخَاطِبِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي مَصْلَحَةِ وَلِيَّتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ الْمَشْرُوطُ لِغَيْرِ الْمَرْأَةِ، بَلْ لِزَوْجِهَا.
فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَرْأَةَ زُوِّجَتْ لِأَجْلِ غَيْرِهَا، وَصَارَ بُضْعُهَا مَبْذُولًا لِأَجْلِ مَقْصُودِ غَيْرِهَا، وَالْأَبُ لَهُ حَقٌّ فِي مَالِ وَلَدِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . وَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي بُضْعِهَا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَتَّعُ بِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

الصفحة 205