كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ؛ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ. وَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد، وَابْنِ حَزْمٍ.
وَهَكَذَا تَنَازَعُوا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْعَتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ. هَلْ يَقَعُ ذَلِكَ إذَا حَنِثَ، أَوْ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَوْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةٌ؛ وَلَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. " أَحَدُهُمَا " يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْنَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، " وَالثَّانِي " لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.

فَصْلٌ
وَأَمَّا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ إذًا عِتْقُ عَبْدِي. فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ؛ لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَقَوْلُ دَاوُد، وَابْنِ حَزْمٍ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا.
وَقِيلَ: يَجِبُ التَّكْفِيرُ عَيْنًا؛ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ، وَتَتَبُّعِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ؛ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إمَّا ضَعِيفٌ؛ بَلْ كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِهِمْ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنْ يُجْزِيَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَنَّهُ يُعْتَقُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى أَسَانِيدِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا نِزَاعَ فِيهِ فَاضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَكَسَ مُوجَبَ الدَّلِيلِ فَقَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ دُونَ الْعَتَاقِ، وَقَدْ بَسَطَ

الصفحة 208