كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُجَّةَ كُلِّ قَوْمٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ أَوْ النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ، أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ: فَهَلْ يَحْنَثُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ؟ أَوْ لَا يَحْنَثُ بِحَالٍ، كَقَوْلِ الْمَكِّيِّينَ، وَالْقَوْلِ الْآخَرِ لِلشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا، كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأَتَهُ بَانَتْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَبِنْ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذُكِرَ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَشُكُّ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
عِنْدَ مَالِكٍ يَقَعُ، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَقَعُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ التَّوَقُّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَيُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ الْيَوْمَ كَذَا وَمَضَى الْيَوْمُ، أَوْ شَكَّ فِي فِعْلِهِ هَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الْيَمِينِ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ، وَلَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ، أَوْ خَالَفَهُ وَكَانَ مَظْلُومًا. وَتَنَازَعُوا هَلْ يُرْجَعُ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَسِيَاقِهَا وَمَا هَيَّجَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَذْهَبُ الْمَدَنِيِّينَ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ: لَكِنْ فِي مَسَائِلِهِمَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَعَمَّ مِنْ الْيَمِينِ عُمِلَ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى السَّبَبَ. وَإِنْ كَانَ خَاصًّا: فَهَلْ يَقْصُرُ الْيَمِينَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَعْتَقِدُهُ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا؟ فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِصِفَةٍ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْت طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ - بِالْفَتْحِ - أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِك الدَّارَ؛ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ. فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْت طَالِقٌ لِأَنَّك فَعَلْت كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ فَعَلَتْهُ؟ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: امْرَأَتُك فَعَلَتْ كَذَا؛ فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ. ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهَا؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ: كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ؛ وَكَجَمْعِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ

الصفحة 209