كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

إلَى قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
فَجَعَلَ الْمُبَاحَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا أَحَقَّ بِالرَّدِّ إلَّا إذَا أَرَادُوا إصْلَاحًا؛ وَجَعَلَ لَهُنَّ مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] .
وَقَوْلُهُ هُنَا: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ لَكَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الْعَضْلُ، وَالْمَعْرُوفُ تَزْوِيجُ الْكُفْءِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ؛ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أُولَئِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] إلَى قَوْلِهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ التَّرَاضِيَ بِالْمَعْرُوفِ. وَالْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ: التَّسْرِيحُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّ لَهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ: " لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ".
فَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْوَاجِبُ الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ مِنْ أُمُورِ النِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَهُوَ الْعُرْفُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ فِي حَالِهِمَا نَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَإِنْ كَانَ

الصفحة 228