كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

[مَسْأَلَةٌ الْأَجْسَادُ لَا تُنْقَلُ مِنْ الْقُبُورِ]
مَسْأَلَةٌ:
فِيمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْقُلُونَ مِنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَقَابِرِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَيَنْقُلُونَ مِنْ مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَقَدْ مَاتَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا، أَوْ كَانَ كِتَابِيًّا وَخُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ، فَمَاتَ مُسْلِمًا فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَفِي الظَّاهِرِ مَاتَ كَافِرًا فَهَؤُلَاءِ يُنْقَلُونَ. فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِذَلِكَ حُجَّةٌ؟ أَمْ لَا؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْأَجْسَادُ فَإِنَّهَا لَا تُنْقَلُ مِنْ الْقُبُورِ، لَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامَ، وَيَكُونُ مُنَافِقًا، إمَّا يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا مُعَطِّلًا.
فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ نُظَرَائِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] أَيْ أَشْبَاهَهُمْ، وَنُظَرَاءَهُمْ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَنْ مَاتَ، وَظَاهِرُهُ كَافِرًا، أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِاَللَّهِ، قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ، وَكَتَمَ أَهْلُهُ ذَلِكَ، إمَّا لِأَجْلِ مِيرَاثٍ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُورًا مَعَ الْكُفَّارِ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ فِي نَقْلِ الْمَلَائِكَةِ، فَمَا سَمِعْت فِي ذَلِكَ أَثَرًا.

[قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى]
382 - 22 - سُئِلَ: عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا مَاتَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَيْسَ فِي الْآيَةِ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ لَهُ، وَبِمَا يُعْمَلُ عَنْهُ مِنْ الْبِرِّ بَلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ.

الصفحة 27