كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كُرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ، وَالسُّرُجَ» .
وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسَاجِدِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهَا، لَا أَمْرَ إيجَابٍ، وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ. وَلَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا فَضِيلَةٌ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ، فَضْلًا عَنْ الْمَسَاجِدِ، بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا فِيهَا فَضْلٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهَا، أَوْ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ، فَقَدْ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَرَقَ مِنْ الدِّينِ، بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ: هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ، أَوْ مَكْرُوهَةٌ؟ أَوْ مُبَاحَةٌ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَنْبُوشَةِ وَالْقَدِيمَةِ، فَذَلِكَ لِأَجْلِ تَعْلِيلِ النَّهْيِ بِالنَّجَاسَةِ لِاخْتِلَاطِ التُّرَابِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى.
وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ، فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وَلِهَذَا لَا يُشْرَعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنْذَرَ لِلْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ، لَا زَيْتٌ، وَلَا شَمْعٌ، وَلَا دَرَاهِمُ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَلِلْمُجَاوِرِينَ عِنْدَهَا، وَخُدَّامِ الْقُبُورِ. فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ. وَمَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَقَدْ نَذَرَ مَعْصِيَةً. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» .

الصفحة 35