كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وَأَمَّا التَّوَكُّلُ وَالرَّغْبَةُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] . وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ.
وَقَالَ: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] وَلَمْ يَقُلْ: وَإِلَى الرَّسُولِ، وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] . فَالْعِبَادَةُ وَالْخَشْيَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرْضَاءُ: فَعَلَيْنَا أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَنُحِبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَنُرْضِيَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَإِرْضَاءَهُ إرْضَاءٌ لِلَّهِ، وَحُبَّهُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ بَدَّلُوا الدِّينَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَسَائِطَ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ إلَّا مُتَابَعَةُ الرَّسُولِ، بِفِعْلِ مَا أَمَرَ، وَتَرْكِ مَا حَذَّرَ.
وَمَنْ جَعَلَ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ: مِثْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ الْمُلُوكِ مَنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ، وَيَذْكُرُونَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُفْتَرَاةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ. كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَقَالُوا: اذْهَبْ إلَى مَنْ أَنْتَ رَسُولٌ إلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُمْ أَصْبَحُوا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالسِّرِّ الَّذِي نَاجَاهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ بِدُونِ إعْلَامِ الرَّسُولِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّهُمْ قَاتَلُوهُ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَقَالُوا: مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ كُنَّا مَعَهُ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ، وَالْكَذِبِ.
وَمِثْلُ احْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: عَلَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا اسْتَغْنَى الْخَضِرُ عَنْ مُوسَى، وَمِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ، يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي

الصفحة 46