كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إجَابَةُ دُعَاءِ الشَّافِعِينَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة: 4] وَقَالَ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ - قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 43 - 44] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ صَاحِبِ " يس ": {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ - إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس: 23 - 24] {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] .
وَأَمَّا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَهَؤُلَاءِ مُبْتَدِعَةٌ ضُلَّالٌ، مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَلِإِجْمَاعِ خَيْرِ الْقُرُونِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، أَثْبَتُوا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفَوْا مَا نَفَاهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَالشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتُوهَا هِيَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ. كَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إذَا جَاءَ النَّاسُ إلَى آدَمَ، ثُمَّ نُوحٍ، ثُمَّ إبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ يَأْتُونَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قَالَ: «فَأَذْهَبُ إلَى رَبِّي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ، لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ، فَيَقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ: يُسْمَعُ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» ، فَهُوَ يَأْتِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ، فَيَبْدَأُ بِالسُّجُودِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ شَفَعَ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الَّتِي نَفَاهَا الْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَنْفِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، مِثْلُ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الْغَائِبِينَ وَالْمَيِّتِينَ قَضَاءَ حَوَائِجِهِمْ وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا ذَلِكَ قَضَوْهَا، وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَخَوَاصِّ الْمُلُوكِ عِنْدَ الْمُلُوكِ، يَشْفَعُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُلُوكِ، وَلَهُمْ

الصفحة 48