كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

قِيلَ: إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ إلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ دُخُولُ النِّسَاءِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ، وَالْعَامُّ لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُسْتَفِيضَةَ فِي نَهْيِ النِّسَاءِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، بَلْ وَلَا يَنْسَخُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ:
لَوْ كَانَ النِّسَاءُ دَاخِلَاتٍ فِي الْخِطَابِ، لَاسْتُحِبَّ لَهُنَّ زِيَارَةُ الْقُبُورِ، كَمَا اُسْتُحِبَّ لِلرِّجَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ بِعِلَّةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» وَلِهَذَا تَجُوزُ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ، وَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» .
وَأَمَّا زِيَارَتُهُ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ وَالدُّعَاءُ، كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ إذَا زَارُوا قُبُورَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ، وَيَدْعُوا لَهُمْ. فَلَوْ كَانَتْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ مَأْذُونًا فِيهَا لِلنِّسَاءِ لَاسْتُحِبَّ لَهُنَّ، كَمَا اُسْتُحِبَّ لِلرِّجَالِ، لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَذَكُّرِ الْمَوْتِ. وَمَا عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَئِمَّةِ اسْتَحَبَّ لَهُنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَلَا كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ يَخْرُجْنَ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ، كَمَا يَخْرُجُ الرِّجَالُ.
وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الزِّيَارَةِ اعْتَمَدُوا عَلَى مَا يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي غَيْبَتِهَا وَقَالَتْ: لَوْ شَهِدْتُكَ لَمَا زُرْتُكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَارَةَ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ، كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتُحِبَّ لَهَا زِيَارَتُهُ، كَمَا تُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ زِيَارَتُهُ، سَوَاءٌ شَهِدَتْهُ أَوْ لَمْ تَشْهَدْهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْجَنَائِزِ أَوْكَدُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى النِّسَاءَ عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ» ، وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ صَلَاتِهِنَّ عَلَى الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُنَّ اتِّبَاعُهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالثَّوَابِ، فَكَيْفَ بِالزِّيَارَةِ؟ ،

الصفحة 50