كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

رَجُلٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا نِسَاءُ لَكَانَ حَمْلُهُ وَدَفْنُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضًا عَلَيْهِنَّ، وَفِي تَغْسِيلِهِنَّ لِلرِّجَالِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ. وَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ هَلْ يُيَمَّمُ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - فَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ مَنْهِيَّاتٌ عَمَّا جِنْسُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَصْلَحَتُهُ أَعْظَمُ إذَا قَامَ بِهِ الرِّجَالُ، فَمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَحَدٍ أَوْلَى.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: مَفْسَدَةُ التَّشْيِيعِ أَعْظَمُ: مَمْنُوعٌ؛ بَلْ إذَا رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي الزِّيَارَةِ كَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ تَكْرِيرِ ذَلِكَ، فَتَعْظُمُ فِيهِ الْمَفْسَدَةُ، وَيَتَجَدَّدُ الْجَزَعُ، وَالْأَذَى لِلْمَيِّتِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ قَصْدِ الرِّجَالِ لَهُنَّ وَالِافْتِتَانِ بِهِنَّ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِ زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ.
وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ جِنْسَ زِيَارَةِ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ اتِّبَاعِهِنَّ، وَأَنَّ نَهْيَ الِاتِّبَاعِ إذَا كَانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَكُونَ نَهْيُ الزِّيَارَةِ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ نَهْيَ الْمَرْأَةِ عَنْ الِاتِّبَاعِ قَدْ يَتَعَذَّرُ لِفَرْطِ الْجَزَعِ، كَمَا يَتَعَذَّرُ تَسْكِينُهُنَّ لِفَرْطِ الْجَزَعِ أَيْضًا، فَإِذَا خَفَّفَ هَذِهِ الْقُوَّةَ الْمُقْتَضِي لَمْ يَلْزَمْ تَخْفِيفُ مَا لَا يَقْوَى الْمُقْتَضِي فِيهِ. وَإِذَا عَفَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ عَمَّا لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَعْفُوَ لَهُ عَمَّا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الْوَاجِبَةِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
أَنْ يُقَالَ: قَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقَيْنِ: «أَنَّهُ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ؛ وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِي نُسَخٍ تَصْحِيحُهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ ذِكْرِ الزِّيَارَةِ فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ تَرَكَهُ شُعْبَةُ، وَلَيْسَ بِذَاكَ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ.
وَقَالَ

الصفحة 52