كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

وَنَفْعَ نَفْسِهِ. فَمَالُ غَيْرِهِ وَنَفْعُ غَيْرِهِ هُوَ كَذَلِكَ لِلْغَيْرِ؛ لَكِنْ إذَا تَبَرَّعَ لَهُ الْغَيْرُ بِذَلِكَ جَازَ.
وَهَكَذَا هَذَا إذَا تَبَرَّعَ لَهُ الْغَيْرُ بِسَعْيِهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، كَمَا يَنْفَعُهُ بِدُعَائِهِ لَهُ، وَالصَّدَقَةِ عَنْهُ، وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِكُلِّ مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَقَارِبِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، كَمَا يَنْتَفِعُ بِصَلَاةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ.

فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هَلْ تَجْتَمِعُ رُوحُهُ مَعَ أَرْوَاحِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ؟ فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا عُرِجَ بِرُوحِهِ تَلَقَّتْهُ الْأَرْوَاحُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ الْأَحْيَاءِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ، فَيَقُولُونَ لَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: عَمِلَ عَمَلَ صَلَاحٍ، فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: أَلَمْ يَقْدَمْ عَلَيْكُمْ؟ ، فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقُولُونَ ذُهِبَ بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ» .
وَلَمَّا كَانَتْ أَعْمَالُ الْأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى الْمَوْتَى، كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا أُخْزَى بِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ". فَهَذَا اجْتِمَاعُهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِ يَسْأَلُونَهُ فَيُجِيبُهُمْ.

وَأَمَّا اسْتِقْرَارُهُمْ فَبِحَسَبِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ كَانَتْ مَنْزِلَتُهُ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ؛ لَكِنَّ الْأَعْلَى يَنْزِلُ إلَى الْأَسْفَلِ، وَالْأَسْفَلُ لَا يَصْعَدُ إلَى الْأَعْلَى، فَيَجْتَمِعُونَ إذَا شَاءَ اللَّهُ، كَمَا يَجْتَمِعُونَ فِي الدُّنْيَا مَعَ تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ، وَيَتَزَاوَرُونَ.
وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَدَافِنُ مُتَبَاعِدَةً فِي الدُّنْيَا، أَوْ مُتَقَارِبَةً. قَدْ تَجْتَمِعُ الْأَرْوَاحُ مَعَ تَبَاعُدِ الْمَدَافِنِ، وَقَدْ تَفْتَرِقُ مَعَ تَقَارُبِ الْمَدَافِنِ، يُدْفَنُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ الْكَافِرِ، وَرُوحُ هَذَا فِي الْجَنَّةِ، وَرُوحُ هَذَا فِي النَّارِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونَانِ جَالِسَيْنِ أَوْ نَائِمَيْنِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَقَلْبُ هَذَا يُنَعَّمُ، وَقَلْبُ هَذَا يُعَذَّبُ. وَلَيْسَ بَيْنَ الرُّوحَيْنِ اتِّصَالٌ. فَالْأَرْوَاحُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ: فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» .
وَالْبَدَنُ لَا يُنْقَلُ إلَى مَوْضِعِ الْوِلَادَةِ، بَلْ قَدْ جَاءَ: «إنَّ الْمَيِّتَ يُذَرُّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ

الصفحة 64