كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 3)

وَالْإِنْسَانُ يُعَذَّبُ بِالْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي يَشْعُرُ بِهَا، مِثْلُ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ، وَالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ، وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ، فَهُوَ يَتَعَذَّبُ بِسَمَاعِ هَذَا وَشَمِّ هَذَا، وَرُؤْيَةِ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلًا لَهُ عُوقِبَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنْ يُعَذَّبَ الْمَيِّتُ بِالنِّيَاحَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ النِّيَاحَةُ عَمَلًا لَهُ، يُعَاقَبُ عَلَيْهِ؟ وَالْإِنْسَانُ فِي قَبْرِهِ يُعَذَّبُ بِكَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ، وَيَتَأَلَّمُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ، وَبِسَمَاعِ كَلَامِهِ. وَلِهَذَا أَفْتَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: بِأَنَّ الْمَوْتَى إنَّمَا عُمِلَ عِنْدَهُمْ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُمْ يَتَأَلَّمُونَ بِهَا، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ، فَتَعْذِيبُهُمْ بِعَمَلِ الْمَعَاصِي عِنْدَ قُبُورِهِمْ كَتَعْذِيبِهِمْ بِنِيَاحَةِ مَنْ يَنُوحُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ النِّيَاحَةُ سَبَبُ الْعَذَابِ.
وَقَدْ يَنْدَفِعُ حُكْمُ السَّبَبِ بِمَا يُعَارِضُهُ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَيِّتِ مِنْ قُوَّةِ الْكَرَامَةِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ مِنْ الْعَذَابِ، كَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَدْفَعُ ضَرَرَ الْأَصْوَاتِ الْهَائِلَةِ، وَالْأَرْوَاحِ وَالصُّوَرِ الْقَبِيحَةِ.
وَأَحَادِيثُ الْوَعِيدِ يُذْكَرُ فِيهَا السَّبَبُ. وَقَدْ يَتَخَلَّفُ مُوجِبُهُ لِمَوَانِعَ تَدْفَعُ ذَلِكَ: إمَّا بِتَوْبَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَإِمَّا بِحَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، وَإِمَّا بِمَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، وَإِمَّا بِشَفَاعَةِ شَفِيعٍ مُطَاعٍ، وَإِمَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّهُ {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .

وَمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ مِنْ الْأَلَمِ الَّتِي هِيَ عَذَابٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزْنٍ، وَلَا أَذًى، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» .
وَفِي الْمُسْنَدِ «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟ ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ ، أَلَسْتَ يُصِيبُك الْأَذَى؟ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] » . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّهُمْ إذَا عَبَرُوا

الصفحة 68