كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَذَكَرُوا عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ زَمَانِهِمْ وَنَحْوِهِمْ اسْتِعْمَالُ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَمَّا يُفَسِّرُهَا مِنْ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مَا يُعَارِضُهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءُ مُعَارِضِهِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مُقْتَضَاهُ، وَهَذِهِ الْغَلَبَةُ لَا تَحْصُلُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَكْثَرِ الْعُمَومَاتِ الَّتِي بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُعَارِضِ سَوَاءٌ جَعَلَ عَدَمَ الْمُعَارِضِ جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ، وَلَا الْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، أَوْ جَعَلَ الْمُعَارِضَ الْمَانِعَ مِنْ الدَّلِيلِ فَيَكُونُ الدَّلِيلُ هُوَ الظَّاهِرُ، لَكِنْ الْقَرِينَةُ مَانِعَةٌ لِدَلَالَتِهِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الدَّلِيلِ وَالْعِلَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ، أَوْ إطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ، أَوْ اصْطِلَاحٍ حَرِيٍّ لَا يَرْجِعُ لِأَمْرٍ فِقْهِيٍّ أَوْ عِلْمِيٍّ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَدِلَّةُ النَّافِيَةُ لِتَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ وَالْمُثْبِتَةِ لِحِلِّهَا مَخْصُوصَةٌ بِجَمِيعِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ، فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي أَنْوَاعِ الْمَسَائِلِ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ، وَالْحُجَجِ الْخَاصَّةِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَهِيَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَامَّةُ أَشْبَهَ مِنْهَا بِقَوَاعِدِ الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ الْأَحْكَامُ الْعَامَّةُ، نَعَمْ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ، أَوْ حَادِثَةٍ انْتَفَعَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، فَيُذْكَرُ مِنْ أَنْوَاعِهَا قَوَاعِدُ حُكْمِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ.
مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَخْرَجَ عَيْنًا عَنْ مِلْكِهِ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ، أَوْ تَبَرُّعٍ، كَالْوَقْفِ وَالْعِتْقِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنَافِعِهَا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ الْغَرَرُ كَالْبَيْعِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا، لِمَا رَوَى جَابِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ مَا عَاشَ عَبْدُهُ أَوْ عَاشَ فُلَانٌ، أَوْ يَسْتَثْنِيَ غَلَّةَ الْوَقْفِ مَا عَاشَ الْوَاقِفُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ صَحَّ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، لِحَدِيثِ بَرِيرَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْهُمَا قَوْلٌ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ هَلْ يَصِيرُ الْعِتْقُ وَاجِبًا عَلَى الْمُشْتَرِي، كَمَا يَجِبُ الْعِتْقُ بِالنَّذْرِ بِحَيْثُ يَفْعَلُهُ الْحَاكِمُ إذَا امْتَنَعَ، أَمْ يَمْلِكُ الْبَائِعُ الْفَسْخَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْعِتْقِ، كَمَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِفَوَاتِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْمَبِيعِ، عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِهِمَا.
ثُمَّ الشَّافِعِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ يَرَوْنَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ، لِمَا فِيهِ

الصفحة 100