كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

مِنْ مَنْعِ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ الْعِتْقِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ الْمِلْكُ الَّذِي يَمْلِكُ صَاحِبُهُ التَّصَرُّفَ مُطْلَقًا.
قَالُوا: وَإِنَّمَا جَوَّزَتْهُ السُّنَّةُ؛ لِأَنَّ لِلشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ تَشَوُّقًا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهِ السِّرَايَةَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إخْرَاجِ مِلْكِ الشَّرِيكِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَإِذَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ وَالنُّفُوذِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ.
وَأُصُولُ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ تَقْتَضِي جَوَازَ شَرْطِ كُلِّ تَصَرُّفٍ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ، قِيلَ لِأَحْمَدَ الرَّجُلُ يَبِيعُ الْجَارِيَةَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا، فَأَجَازَهُ، قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، قَالَ: لِمَ لَا يَجُوزُ، قَدْ اشْتَرَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيرَ جَابِرٍ وَاشْتَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَاشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ عَلَى أَنَّهَا تُعْتِقُهَا، فَلِمَ لَا يَجُوزُ هَذَا، قَالَ: وَإِنَّمَا هَذَا شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ عَنْ شَرْطَيْنِ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ شَرَطَ شَرْطَيْنِ أَيَجُوزُ، قَالَ: لَا يَجُوزُ، فَقَدْ نَازَعَ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ بِاشْتِرَاطِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَهْرَ بَعِيرِ جَابِرٍ، وَحَدِيثِ بَرِيرَةَ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ، مَعَ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِيهِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَبِيعِ، وَهُوَ يَقْضِي لِمُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ.
وَاشْتِرَاطُ الْعِتْقِ فِيهِ تَصَرُّفٌ مَقْصُودٌ مُسْتَلْزِمٌ لِنَقْضِ مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ فِي التَّصَرُّفِ أَوْ فِي الْمَمْلُوكِ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ الشَّرْطَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْجِنْسِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَمَا قَاسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا يَشْمَلُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَسَّانَ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا وَاشْتَرَطَ هُوَ حُرِّيَّتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، قَالَ: هَذَا مُدَبَّرٌ، فَجَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّدْبِيرِ كَالْعِتْقِ.
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي شَرْطِ التَّدْبِيرِ خِلَافٌ، صَحَّحَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَلِذَلِكَ جَوَّزَ اشْتِرَاطَ التَّسَرِّي فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنْ يَتَسَرَّى بِهَا، وَلَا تَكُونُ لِلْخِدْمَةِ، قَالَ: لَا بَأْسَ، فَلَمَّا كَانَ التَّسَرِّي لِبَائِعِ الْجَارِيَةِ فِيهِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ جَوَّزَهُ، وَكَذَلِكَ جَوَّزَ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا لِغَيْرِ الْبَائِعِ، وَأَنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُهَا إذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَامْرَأَتِهِ زَيْنَبُ.

الصفحة 101