كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِأَجْزَائِهِ وَمَنَافِعِهِ يَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» . فَجَوَّزَ لِلْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَ زِيَادَةٍ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَمْلِكَانِ اشْتِرَاطَ النَّقْصِ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، كَمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشِّيَاهِ إلَّا أَنْ تُعْلَمَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا إذَا عُلِمَتْ، وَكَمَا اسْتَثْنَى جَابِرٌ ظَهْرَ بَعِيرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا أَعْلَمُهُ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ الدَّارَ إلَّا رُبْعَهَا أَوْ ثُلُثَهَا، وَاسْتِثْنَاءُ الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ إذَا أَمْكَنَ فَصْلُهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ ثَمَرَ الْبُسْتَانِ إلَّا نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ الثِّيَابَ أَوْ الْعَبِيدَ أَوْ الْمَاشِيَةَ الَّتِي قَدَّرَ إيَّاهَا إلَّا شَيْئًا مِنْهَا قَدْ عَيَّنَّاهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ كَسَكْنِ الدَّارِ شَهْرًا أَوْ اسْتِخْدَامِ الْعَبِيدِ شَهْرًا، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً أَوْ إلَى بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ، مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ إذَا اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً فَإِنَّ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا الَّتِي يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ. كَمَا اشْتَرَتْ عَائِشَةُ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُزَوَّجَةً، وَلَكِنْ هِيَ اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَلَمْ تَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهَا إلَّا بِالْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ لَا يُنَافِي نِكَاحَهَا، فَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ بَرِيرَةَ يَرَى أَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَأْوِيلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] .
قَالُوا: فَإِذَا ابْتَاعَهَا أَوْ اتَّهَبَهَا أَوْ وَرِثَهَا فَقَدْ مَلَكَتْهَا يَمِينُهُ فَيُبَاحُ لَهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِزَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ، فَلَمْ يَرْضَ أَحْمَدُ هَذِهِ الْحُجَّةَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَاهُ وَخَالَفَهُ، وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَمْلِكْ بَرِيرَةَ مِلْكًا مُطْلَقًا. ثُمَّ الْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ إذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهَا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَانَ مَالِكًا مَعْصُومَ الْمِلْكِ لَمْ يَزُلْ عَنْهَا مِلْكُ الزَّوْجِ

الصفحة 102