كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، كَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَالْمُثْبَتِ لِلْمَرْأَةِ، وَكَالِاسْتِمْتَاعِ لِلزَّوْجِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] . فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . فَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِيهِ فَرَضَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ، كَمَا فَرَضَتْ الصَّحَابَةُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ لِلزَّوْجِ بِمَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمَنْ قَدَّرَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ الْوَطْءَ الْمُسْتَحَقَّ، فَهُوَ كَتَقْدِيرِ الشَّافِعِيِّ النَّفَقَةَ، إذْ كِلَاهُمَا مِمَّا تَحْتَاجُهُ الْمَرْأَةُ وَيُوجِبُهُ الْعَقْدُ، وَتَقْدِيرُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، بَعِيدٌ عَنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا قَدَّرَهُ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ مِنْ نَفْيِهِ لِلْجَهَالَةِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، فَجَعَلَ النَّفَقَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ مُقَدَّرَةً طَرْدًا كَذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ يُوجِبُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ سَلَامَةَ الزَّوْجِ مِنْ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَلَامَتَهَا مِنْ مَوَانِعِ الْوَطْءِ كَالرَّتْقِ وَسَلَامَتِهَا مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَكَذَلِكَ سَلَامَتُهَا مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ كَمَالَهُ كَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْهُ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي إحْدَى الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ دُونَ الْجَمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمُوجِبُهُ كَفَاءَةُ الرَّجُلِ أَيْضًا دُونَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ صِفَةً مَقْصُودَةً كَالْمَالِ وَالْجَمَالِ وَالْبَكَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صَحَّ ذَلِكَ.
وَمَلَكَ بِالشَّرْطِ الْفَسْخَ عِنْدَ فَوْتِهِ فِي أَصَحِّ رِوَايَتَيْ أَحْمَدَ؛ وَأَصَحِّ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ وَظَاهِرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ إلَّا فِي شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ؛ وَفِي شَرْطِ النَّسَبِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَجْهَانِ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُشْتَرِطُ هُوَ الْمَرْأَةُ فِي الرَّجُلِ أَوْ الرَّجُلُ فِي الْمَرْأَةِ، بَلْ اشْتِرَاطُ الْمَرْأَةِ فِي الرَّجُلِ أَوْكَدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ بَعْضَ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ

الصفحة 104