كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الْعِوَضِ كَالْبَائِعِ الَّذِي كَانَ مَقْصُودُهُ أَخْذَ الثَّمَنِ، وَالْتَزَمَ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، فَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ سَبَبُهُ بِالْمُعَاوَضَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ جَعَلَ الطَّلَاقَ عُقُوبَةً مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إذَا ضَرَبْت أَمَتِي فَأَنْتَ طَالِقٌ وَإِنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ فَأَنْتَ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ فِي الْخُلْعِ عَوَّضَهَا بِالتَّطْلِيقِ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تُزِيلُ الطَّلَاقَ وَهُنَا عَوَّضَهَا عَنْ مَعْصِيَتِهَا بِالطَّلَاقِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: قِيلَ: أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنَّهُ إذَا ظَهَرْت فَأَنْتَ طَالِقٌ، أَوْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ. أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ فَمَالِي صَدَقَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ تَوْقِيتٌ مَحْضٌ، فَهَذَا الضَّرْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَجَّزِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَصَدَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، بِمَنْزِلَةِ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤَخِّرُ الطَّلَاقَ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ لِغَرَضٍ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ لَا لِعِوَضٍ وَلَا لِحَثٍّ عَلَى طَلَبٍ أَوْ خَبَرٍ.
وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أَحْلِفُ بِطَلَاقِك. أَوْ إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت أَوْ لَمْ تَدْخُلِي وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْحَضِّ أَوْ الْمَنْعِ فَهُوَ حَالِفٌ وَلَوْ كَانَ تَعْلِيقًا مَحْضًا كَقَوْلِهِ: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَنْتَ طَالِقٌ وَإِنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِحَالِفٍ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي فِي الْجَامِعِ هُوَ حَالِفٌ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ وُجُودَهُمَا جَمِيعًا. فَمِثْلُ الَّذِي قَدْ آذَتْهُ امْرَأَتُهُ حَتَّى أَحَبَّ طَلَاقَهَا وَاسْتِرْجَاعَ الْفِدْيَةِ مِنْهَا، فَيَقُولُ إنْ أَبْرَأْتنِي مِنْ صَدَاقِك أَوْ مِنْ نَفَقَتِك فَأَنْتَ طَالِقٌ، وَهُوَ يُرِيدُ كُلًّا مِنْهُمَا.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ عَدَمَ الشَّرْطِ، لَكِنَّهُ إذَا وُجِدَ لَمْ يُكْرَهْ الْجَزَاءُ بَلْ يُحِبُّهُ أَوْ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَكْرَهُهُ، فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ إنْ زَنَيْت فَأَنْتَ طَالِقٌ، وَإِنْ ضَرَبْت أُمِّي فَأَنْتَ طَالِقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ التَّعْلِيقِ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ عَدَمُ الشَّرْطِ، وَيُقْصَدُ وُجُودُ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِهِ. بِحَيْثُ تَكُونُ إذَا زَنَتْ أَوْ إذَا ضَرَبَتْ أُمَّهُ يَجِبُ فِرَاقُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ، فَهَذَا فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ فَإِنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ الْفِعْلِ وَقَصَدَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ كَمَا قَصَدَ إيقَاعَهُ عِنْدَ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنْهَا أَوْ عِنْدَ طُهْرِهَا أَوْ طُلُوعِ الْهِلَالِ.

الصفحة 113