كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

جَوَابَ ذَلِكَ؛ وَمِنْ ذَرَائِعِ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْعِينَةِ، وَهُوَ بِأَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبْتَاعَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا مَعَ التَّوَاطُؤِ يَبْطُلُ الْبَيِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا حِيلَةٌ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَرْفَعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تُرَاجِعُوا دِينَكُمْ» . وَإِنْ لَمْ يَتَوَاطَأْ يَظَلُّ الْبَيْعُ.
الثَّانِي: سَدُّ الذَّرِيعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ عَكْسَ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ عَنْ تَوَاطُؤٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهِيَ أَنْ يَبِيعَهُ حَالًّا، ثُمَّ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مُؤَجَّلًا، وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَرِبًا مُحْتَالٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ وَابْتَاعَ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ لِيَبِيعَهَا؛ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهَا، فَهَذَا يُسَمِّي التَّوَرُّقَ وَفِي كَرَاهَتِهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ، وَالْكَرَاهَةُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٍ فِيمَا أَظُنُّ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي الَّذِي غَرَضُهُ التِّجَارَةُ، أَوْ غَرَضُهُ الِانْتِفَاعُ وَالْقِنْيَةُ، فَهَذَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَى أَجَلٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَفِي الْجُمْلَةِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مَانِعُونَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا مَنْعًا مُحْكَمًا مُرَاعِيًا لِمَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا، وَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُؤْثَرُ مِثْلُهُ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْغَرَرُ فَأَشَدُّ النَّاسِ قَوْلًا فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يُدْخِلُ فِي هَذَا الِاسْمِ مِنْ الْأَنْوَاعِ مَا لَا يُدْخِلُ غَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، مِثْلُ: الْحَبِّ، وَالثَّمَرِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَيْسَ بِصَوَّانٍ، كَالْبَاقِلَاءِ، وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ فِي قِشْرِهِ الْأَخْضَرِ، وَكَالْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ الْجَدِيدَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ اشْتَرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَاقِلَاءَ خَضْرَاءَ، فَخَرَّجَ ذَلِكَ لَهُ قَوْلًا، وَاخْتَارَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي عُبَيْدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ بَيْعِ أُصُولِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ» . فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي سُنْبُلَةٍ، فَقَالَ: إنْ صَحَّ هَذَا أَخْرَجْتُهُ مِنْ الْعَامِّ أَوْ كَلَامًا قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمَنْعِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: جَوَازُ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.

الصفحة 21