كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً: لَا يَجُوزُ ثُمَّ بَلَغَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَعْدِلُ عَنْ الْقَوْلِ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَهُ قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ الْجَوَازَ هُوَ الْقَدِيمُ حَتَّى مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِصِفَةٍ وَبِغَيْرِ صِفَةٍ، مُتَأَوِّلًا أَنَّ الْغَائِبَ غَرَرٌ وَإِنْ وُصِفَ، وَحَتَّى اشْتَرَطَ فِيهَا فِي الذِّمَّةِ لِدَيْنِ السَّلَمِ مِنْ الصِّفَاتِ وَضَبْطِهَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى النَّاسِ الْمُعَامَلَةُ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَاسَ عَلَى بَيْعِ الْغَرَرِ جَمِيعَ الْعُقُودِ مِنْ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ، فَاشْتَرَطَ فِي أُجْرَةِ الْأَجِيرِ الْمَشْهُورِ، وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ، وَصُلْحِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ، وَجِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَا يَشْتَرِطُهُ فِي الْبَيْعِ عَيْنًا وَدَيْنًا، وَلَمْ يُجَوِّزْ فِي ذَلِكَ جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً إلَّا مَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ أَعْوَاضِهَا، أَوْ يَشْتَرِطُ لَهَا شُرُوطًا أُخْرَى.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوِهِ فِي الْقِشْرِ

، وَيُجَوِّزُ إجَارَةُ الْأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ، وَيُجَوِّزُ أَنْ تَكُونَ جَهَالَةُ الْمَهْلِ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَيُجَوِّزُ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِلَا صِفَةٍ مَعَ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَهَالَةً، لَكِنَّهُ قَدْ يُحَرِّمُ الْمُسَاقَاةَ، وَالْمُزَارَعَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مُطْلَقًا، وَالشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ أَيْضًا كَثِيرًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْعَقْدِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ بَعْضَ ذَلِكَ وَيُجَوِّزُ مِنْ الْوَكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ مَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ، حَتَّى جَوَّزَ شَرِكَةَ الْمُعَاوَضَةِ وَالْوَكَالَةِ بِالْمَجْهُولِ الْمُطْلَقِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ لَمْ تَكُنْ شَرِكَةُ الْمُعَاوَضَةِ بَاطِلًا فَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا بَاطِلًا، فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، لَكِنْ أُصُولُ الشَّافِعِيِّ الْمُحَرَّمَةُ أَكْثَرُ مِنْ أُصُولِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَمَذْهَبُهُ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَجَمِيعِ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ، أَوْ يَقِلُّ غَرَرُهُ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ، حَيْثُ يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمَقَاثِي جُمْلَةً، وَبَيْعَ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ: كَالْجَزَرِ، وَالْفُجْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَحْمَدُ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيُجَوِّزُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ عَبْدًا مُطْلَقًا، وَعَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَا تَزِيدُ جَهَالَتُهُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْمُبْهَمَ دُونَ الْمُطْلَقِ، كَأَبِي الْخَطَّابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُ الشَّافِعِيَّ، فَلَا يُجَوِّزُ فِي الْمَهْرِ وَفِدْيَةِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ،

الصفحة 22