كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الْبُسْرَةَ تَصْفَرُّ فِي يَوْمِهَا، وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْمَقْثَاةِ، وَقَدْ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ عَنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ تَبَعًا بِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَرِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمَوْجُودِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَعْلَمُونَ فَسَادَ هَذَا الْعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ سَقْيُ الثَّمَرَةِ، وَيُسْتَحَقُّ إبْقَاؤُهَا عَلَى الشَّجَرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ الزِّيَادَةُ بِالْعَقْدِ لَمَا وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ مَا بِهِ يُوجَدُ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْبَائِعِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ بِوَقْتِهِ الْمَبِيعُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، لَا مَا كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمِلْكِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرِّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ عَنْ أَحْمَدَ، إذَا بَدَا الصَّلَاحُ فِي حَدِيقَةٍ مِنْ الْحَدَائِقِ، هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِهَا أَمْ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا صَلُحَ مِنْهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ:
أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ: أَنَّهُ لَا يُبَاعُ إلَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ، وَهِيَ اخْتِيَارُ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ، كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ شَاقِلَا.
الثَّانِيَةُ: يَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الْبَعْضِ صَلَاحًا لِلْجَمِيعِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي مِنْ بَعْدِهِمَا، ثُمَّ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ فِي بُسْتَانٍ بَعْضُهُ بَالِغٌ وَغَيْرُ بَالِغٍ يَبِيعُ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِ الْبُلُوغُ، فَمِنْهُمْ كَالْقَاضِي وَأَبِي حَكِيمٍ النِّهْرَوَانِيِّ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِمْ، مَنْ قَصَرَ الْحُكْمَ بِمَا إذَا غَلَبَ الصَّلَاحُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الصَّلَاحِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ وَزَادَ مَالِكٌ فَقَالَ يَكُونُ صَلَاحًا لِمَا جَاوَرَهُ مِنْ الْأَفْرِحَةِ، وَحَكَوْا ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ يَكُونُ صَلَاحُ النَّوْعِ كَالْبَرْنِيِّ مِنْ الرُّطَبِ إصْلَاحًا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّطَبِ، عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ:
أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ابْنِ عَقِيلٍ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ.
وَالثَّانِي: الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْخَطَّابِ، وَزَادَ اللَّيْثُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَقَالَ: صَلَاحُ الْجِنْسِ كَالتُّفَّاحِ وَاللَّوْزِ يَكُونُ صَلَاحًا لِسَائِرِ أَجْنَاسِ الثِّمَارِ،
وَمَأْخَذُ مَنْ جَوَّزَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْعَ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ يُفْضِي إلَى سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَاخْتِلَافِ الْأَيْدِي، وَهَذِهِ عِلَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبُسْتَانِ الْوَاحِدِ وَالْبَسَاتِينِ، وَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا.

الصفحة 25