كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

التَّنَاقُضَ اخْتِلَافُ مَقَالَتَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ قَدْ قَالَ إنَّ هَذَا حَرَامٌ، وَقَالَ فِي وَقْتٍ آخَرَ فِيهِ أَوْ فِي مِثْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، أَوْ قَالَ مَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فَقَدْ يُنَاقِضُ قَوْلَاهُ، وَهُوَ مُصِيبٌ فِي كِلَاهُمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، كَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ عَلَى الْمُجْتَهِدِ غَيْرَ مَا اعْتَقَدَهُ.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي الْبَاطِنِ عَلِمَهُ الْعَالِمُ فِي إحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ، وَلَمْ يَعْلَمْهُ فِي الْمُقْبِلَةِ الَّتِي يُنَاقِضُهَا، وَعَدَمُ عِلْمِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِ مَغْفُورٌ لَهُ مَعَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِهِ الْحَقَّ وَاجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِهِ، وَلِهَذَا شَبَّهَ بَعْضُهُمْ تَعَارُضَ الِاجْتِهَادَاتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ، مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الثَّابِتِ بِخِطَابِ حُكْمِ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِخِلَافِ أَحَدِ قَوْلَيْ الْعَالِمِ الْمُتَنَاقِضِ، هَذَا فِيمَنْ يَتَّقِي اللَّهَ فِيمَا يَقُولُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِتَقْوَاهُ وَسُلُوكِهِ الطَّرِيقَ الْمُرْسَلَ، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فَهُمْ مَذْمُومُونَ فِي مُنَاقَضَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدٍ لِمَا يَجِبُ قَصْدُهُ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ لَازِمَ قَوْلِ الْإِنْسَانِ نَوْعَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَازِمُ قَوْلِهِ الْحَقُّ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَهُ، فَإِنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ. وَكَثِيرًا مَا يُضِيفُ النَّاسُ إلَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
وَالثَّانِي: لَازِمُ قَوْلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقٍّ، فَهَذَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَنَاقَضَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّنَاقُضَ وَاقِعٌ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ غَيْرِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -.
ثُمَّ إنَّ مَنْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَلْتَزِمُهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُ فَقَدْ يُضَافُ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ قَوْلٌ لَوْ ظَهَرَ لَهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ لِكَوْنِهِ قَدْ قَالَ مَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَلَا يُلَازِمُهُ وَهَذَا التَّفْضِيلُ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي لَازِمِ الْمَذْهَبِ، هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَوْ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ هُوَ أَجْوَدُ مِنْ إطْلَاقِ أَحَدِهِمَا، فَمَا كَانَ مِنْ اللَّوَازِمِ يَرْضَى الْقَائِلُ بَعْدَ وُضُوحِهِ بِهِ فَهُوَ قَوْلُهُ، وَمَا لَا يَرْضَاهُ فَلَيْسَ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاقِضًا وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ الْتِزَامُهُ مَعَ الْمَلْزُومِ، وَاللَّازِمِ الَّذِي يَجِبُ تَرْكُ الْمَلْزُومِ لِلُزُومِهِ، وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ فِي اللَّوَازِمِ الَّتِي لَمْ يُصَرِّحْ هُوَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا، فَأَمَّا إذَا نَفَى هُوَ اللُّزُومَ لَمْ يَجُزْ

الصفحة 27