كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ اللَّازِمُ بِحَالٍ، وَإِلَّا أُضِيفَ إلَى كُلِّ عَالِمٍ مَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ، لِكَوْنِهِ مُلْتَزِمًا لِرِسَالَتِهِ. فَلَمَّا لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ مَا نَفَاهُ عَنْ الرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ، ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَمْ يَنْفِهِ وَاللَّازِمِ الَّذِي نَفَاهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ نَفْيَهُ لِلُّزُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ فِي وَقْتَيْنِ، وَسَبَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ الْعَالِمَ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الِاقْتِضَاءِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِقَادِ مَا قَامَ دَلِيلُهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لَكِنْ اعْتِقَادًا لَيْسَ بِيَقِينٍ، كَمَا يُؤْمَرُ الْحَاكِمُ بِتَصْدِيقِ الشَّاهِدَيْنِ ذَوِي الْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَا فِي الْبَاطِنِ قَدْ أَخْطَآ أَوْ كَذَبَا وَكَمَا يُؤْمَرُ الْمُفْتِي بِتَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ الْعَدْلِ الضَّابِطِ، أَوْ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ فَيَعْتَقِدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ الْعِبَادُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُطَابِقٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا فِي الْبَاطِنِ بِاعْتِقَادٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ قَطُّ فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَالِمُ اعْتِقَادَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ قَضِيَّتَيْنِ مَعَ قَصْدِهِ الْحَقَّ وَاتِّبَاعِهِ لِمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ عُذِرَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْهُ، وَهُوَ الْخَطَأُ الْمَرْفُوعُ هُنَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم: 23] . وَيُحَرِّمُونَ بِمَا يَقُولُونَ جَزْمًا لَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِجَزْمِهِ، فَيَعْتَقِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاعْتِقَادِهِ لَا بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَيَقْصِدُونَ مَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِاقْتِصَادِهِ، وَيَجْتَهِدُونَ اجْتِهَادًا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، فَلَمْ يُصْدَرْ عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالِاقْتِصَادِ مَا يَقْتَضِي مَغْفِرَةَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، فَكَانُوا ظَالِمِينَ تَشْبِيهًا بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَجَاهِلِينَ شَبِيهًا بِالظَّالِمِينَ.
وَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ الِاجْتِهَادَ الْعِلْمِيَّ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ سِوَى الْحَقِّ وَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَهُ، وَأَمَّا مُتَّبِعُ الْهَوَى الْمَحْضِ فَهُوَ مَنْ يَعْلَمُ الْحَقَّ وَيُعَانِدُ عَنْهُ، وَثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ وَهْمٌ غَالِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَوًى فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَجْمَعَ الشَّهْوَةَ وَالشُّبْهَةَ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّاقِدَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ» . فَالْمُجْتَهِدُ الْمَحْضُ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَأْجُورٌ، وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَحْضِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعَذَابِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ شُبْهَةٍ وَهُوَ مُسِيءٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا يَغْلِبُ وَبِحَسَبِ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى فِقْهٍ أَوْ تَصَوُّفٍ مُبْتَلُونَ بِذَلِكَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أُصُولُ

الصفحة 28