كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

مَالِكٍ وَأُصُولُ أَحْمَدَ وَبَعْضُ أُصُولِ غَيْرِهِمَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ غَالِبُ مُعَامَلَاتِ السَّلَفِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ إلَّا بِهِ، وَكُلُّ مَنْ شَرَعَ فِي تَحْرِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ غَرَرًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَضْطَرَّ إلَى إجَازَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِمَّا أَنْ يَحْتَالَ، وَقَدْ رَأَيْنَا النَّاسَ وَبَلَغَتْنَا أَخْبَارُهُمْ فَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَفْسَدَةَ التَّحْرِيمِ لَا تَزُولُ بِالْحِيلَةِ الَّتِي يَذْكُرُونَهَا، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَرِّمَ الشَّارِعُ عَلَيْنَا أَمْرًا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ لَا يُبِيحُهُ إلَّا بِحِيلَةٍ لَا فَائِدَةَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ اللَّعِبِ، وَلَقَدْ تَأَمَّلْتُ أَغْلَبَ مَا وَقَعَ النَّاسُ فِي الْحِيَلِ فَوَجَدْتُهُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ.
إمَّا ذُنُوبٌ جَوَّزُوا عَلَيْهَا تَضْيِيقًا فِي أُمُورِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَهُ إلَّا بِالْحِيَلِ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ الْحِيَلُ إلَّا بَلَاءً كَمَا جَرَى لِأَصْحَابِ السَّبْتِ مِنْ الْيَهُودِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] . وَهَذَا ذَنْبٌ عَمَلِيٌّ.
وَإِمَّا مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْدِيدِ لِمَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الشَّارِعِ فَاضْطَرَّهُمْ هَذَا الِاعْتِقَادُ إلَى الِاسْتِحْلَالِ بِالْحِيَلِ؛ وَهَذَا مِنْ خَطَأِ الِاجْتِهَادِ، وَإِلَّا فَمَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَأَخَذَ مَا أَحَلَّ لَهُ وَأَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْوِجُهُ إلَى الْحِيَلِ الْمُبْتَدَعَةِ أَبَدًا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وَإِنَّمَا بُعِثَ نَبِيُّنَا بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ، فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ هُوَ الظُّلْمُ، وَالثَّانِي عَدَمُ الْعِلْمِ، وَالظُّلْمُ وَالْجَهْلُ هُوَ وَصْفُ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72] .
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ بُيُوعُ الْغَرَرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي نَبَّهَ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرَسُولُهُ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَيْسِرَ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، سَوَاءٌ كَانَ مَيْسِرًا بِالْمَالِ أَوْ بِاللَّعِبِ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِلَا فَائِدَةٍ وَأَخْذَ الْمَالِ بِلَا حَقٍّ يُوقِعُ فِي النُّفُوسِ ذَلِكَ.

الصفحة 29