كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

جَعَلَ مَالِكٌ والداروردي قَوْلَ أَنَسٍ أَرَأَيْت أَنْ مَنَعَ اللَّهَ الثَّمَرَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرَجَهُ فِيهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ غَلَطٌ فَهَذَا التَّعْلِيلُ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ فِي بَيَانِ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَكْلًا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ، حَيْثُ أَخَذَهُ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ بِلَا عِوَضٍ، وَإِذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ بَيْعِ الْغَرَرِ هِيَ كَوْنُهُ مَطِيَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ إذَا عَارَضَهَا الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّ السِّبَاقَ بِالْخَيْلِ وَالسِّهَامِ وَالْإِبِلِ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ جَازَ بِالْعِوَضِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ غَيْرُهُ بِعِوَضٍ، وَكَمَا أَنَّ اللَّهْوَ الَّذِي يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةٌ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ رَجُلٌ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ» .
صَارَ هَذَا اللَّهْوُ حَقًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّرَرَ عَلَى النَّاسِ بِتَحْرِيمِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَدْ يَتَخَوَّفُ مِنْهَا مَنْ تَبَاغَضَ وَأَكَلَ مَالًا بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ فِيهَا يَسِيرٌ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا مَاسَّةٌ، وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِيَسِيرِ الْغَرَرِ، وَالشَّرِيعَةُ جَمِيعُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْمُحَرَّمُ، فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ مَنْفِيَّةً، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَى بَقَائِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ عَلَى الشَّجَرِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ أَبَاحَ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَقَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا سَنُقَرِّبُ قَاعِدَتَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا إذَا تَلِفَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيك ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» .
وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنَّمَا بَلَغَهُ حَدِيثٌ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِيهِ اضْطِرَابٌ، أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ إنَّهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي لَا

الصفحة 31