كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24] وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ذَهَابُ الْعَاهَةِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ وِرْدُهَا؛ وَهَذِهِ إنَّمَا تُصِيبُهُ بَلْ اشْتِدَادُ الْحَبِّ وَقَبْلَ ظُهُورِ النُّضْجِ فِي الثَّمَرِ، إذْ الْعَاهَةُ بَعْدَ ذَلِكَ نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ بَيْعَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَقْتٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَى حِينِ كَمَالِ الصَّلَاحِ وَبَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاحِهِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْمُلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَإِيجَابُ قَطْعِهِ عَلَى مَالِكِهِ فِيهِ ضَرَرٌ وَمُرَتَّبٌ عَلَى ضَرَرِ الْغَرَرِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ مَصْلَحَةَ جَوَازِ الْبَيْعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْغَرَرِ الْيَسِيرِ كَمَا تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الْحِكْمَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَّمَهَا أُمَّتَهُ، وَمَنْ طَرَدَ الْقِيَاسَ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ نَاظِرٍ إلَى مَا يُعَارَضُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَانِعِ الرَّاجِحِ أَفْسَدَ كَثِيرًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَضَاقَ عَلَيْهِ عَقْلُهُ وَدِينُهُ، وَأَيْضًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رَبَاعِيًا، فَقَالَ: أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» .
فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اقْتِرَاضِ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ، كَمَا عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ، وَالْحَدِيثُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبَةٌ رَدَّ الْمِثْلِ، وَالْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَبِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مَالٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ مِثْلُ الْحَيَوَانِ تَقْرِيبًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَثْبُتُ الْقِيمَةُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ التَّقْرِيبُ، وَإِلَّا فَيَعِزُّ وُجُودُ حَيَوَانٍ مِثْلِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ بِالْقِيمَةِ،

وَأَيْضًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْجِيلِ الدُّيُونِ إلَى الْحَصَادِ وَالْجَدَادِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] ، وَالسُّنَّةُ فِي حَدِيثِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِدُونِ فَرْضِ الصَّدَاقِ، وَتَسْتَحِقُّ مَهْرَ

الصفحة 33