كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الْمِثْلِ إذَا دَخَلَ بِهَا بِإِجْمَاعِهِمْ، وَإِذَا مَاتَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِحَدِيثِ بِرْوَعَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ مُتَقَارِبٌ لَا مَحْدُودٌ، فَلَوْ كَانَ التَّحْدِيدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَهْرِ مَا جَازَ النِّكَاحُ بِدُونِهِ، وَكَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ، وَعَنْ اللَّمْسِ وَالنَّجْشِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ» ، فَمَضَتْ الشَّرِيعَةُ بِجَوَازِ النِّكَاحِ قَبْلَ فَرْضِ الْمَهْرِ، وَأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ تَبَيُّنِ الْأَجْرِ، فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَسَبَبُهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ غَيْرُ مَحْدُودٍ، بَلْ الْمَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ فَكَذَلِكَ عِوَضُهُ الْأَجْرُ.
وَلِأَنَّ الْمَهْرَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَإِنَّمَا هُوَ نَخْلَةٌ تَابِعَةٌ فَأَشْبَهَ الثَّمَرَ التَّابِعَ لِلشَّجَرِ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَكَذَلِكَ «لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ السَّبْيِ وَبَيْنَ الْمَالِ، فَاخْتَارُوا السَّبْيَ، وَقَالَ لَهُمْ: إنِّي قَائِمٌ فَخَاطِبُ النَّاسِ فَقُولُوا إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَنَسْتَشْفِعُ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ: فَقَالَ: إنِّي قَدْ رَدَدْتُ عَلَى هَؤُلَاءِ سَبْيَهُمْ فَمَنْ شَاءَ طَيَّبَ ذَلِكَ وَمَنْ شَاءَ فَإِنَّا نُعْطِيهِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عَشْرَ قَلَائِصَ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِي اللَّهُ عَلَيْنَا» فَهَذَا مُعَاوَضَةٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ، كَعِوَضِ الْكِتَابَةِ بِإِبِلٍ مُطْلَقَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ مُتَفَاوِتٍ غَيْرِ مَحْدُودٍ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ؛ فِي حَدِيثِ حُنَيْنٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاتَلَهُمْ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ، وَعَامَلَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَخْلُوا مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَالْحَلْقَةُ هِيَ السِّلَاحُ، وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ» فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى مَالٍ مُتَمَيِّزٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ. «وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ، يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَارِيَّةً ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ صَامِتُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
فَهَذَا مُصَالَحَةٌ عَلَى ثِيَابٍ مُطْلَقَةٍ مَعْلُومَةِ الْجِنْسِ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِ السَّلَمِ،

الصفحة 34