كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

الثِّمَارَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَتَبَايَعُوا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ»

. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ تَمْرِ النَّخْلِ سِنِينَ لَا يَجُوزُ، قَالُوا: فَإِذَا أَكْرَاهُ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ فَقَدْ بَاعَهُ التَّمْرَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَبَاعَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ مُطْلَقًا طَرَدَ الْعُمُومَ وَالْقِيَاسَ، وَمَنْ جَوَّزَهُ إذَا كَانَ قَلِيلًا، قَالَ: الْغَرَرُ الْيَسِيرُ يُحْتَمَلُ فِي الْعُقُودِ، كَمَا لَوْ ابْتَاعَ النَّخْلَ وَعَلَيْهَا ثَمَرٌ لَمْ يُؤَبَّرْ أَوْ أُبِّرَ وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مُتَوَجِّهٌ جِدًّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِيَاعُ الثَّمَرِ بِشَرْطِ الْبَقَاءِ، وَيَجُوزُ ابْتِيَاعُهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَمُوجِبُ الْعَقْدِ الْقَطْعُ فِي الْحَالِ، فَإِذَا ابْتَاعَهُ مَعَ الْأَصْلِ، فَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِلْكُهُ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إجَارَةِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ إجْمَاعٌ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَدُخُولُ الشَّجَرِ فِي الْإِجَارَةِ مُطْلَقٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ، وَإِلَيْهِ مَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ. وَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ خِلَافَهُ، فَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَرَوَاهُ عَنْهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي مَسَائِلِهِ.
حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ دَيْنٌ، فَدَعَا عُمَرُ غُرَمَاءَهُ، فَقَبِلَهُمْ أَرْضَهُ سِنِينَ، وَفِيهَا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ وَغَيْرِهَا، فَأَقَرَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْعِنَبُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ أَجْرِبَةِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ خَرَاجًا مُقَدَّرًا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى جَرِيبِ الْعِنَبِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْلِ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّرْعِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُخَارَجَةَ تَجْرِي الْمُؤَاجَرَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُوفِهِ
لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ
، وَأَنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، فَهَذَا بِعَيْنِهِ إجَارَةُ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ الَّتِي فِيهَا شَجَرٌ، وَهُوَ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدَهُ.

الصفحة 37