كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَلِهَذَا تَعَجَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْأَمْوَالِ " مِنْ هَذَا، فَرَأَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ تُخَالِفُ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ، وَحُجَّةُ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ إجَارَةَ الْأَرْضِ جَائِزَةٌ، وَالْحَاجَةُ إلَيْهَا دَاعِيَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ إجَارَتُهَا إذَا كَانَ فِيهَا شَجَرٌ، إلَّا بِإِجَارَةِ الشَّجَرِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْجَائِزُ إلَّا بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَتَبَرَّعُ بِسَقْيِ الشَّجَرِ، وَقَدْ لَا يُسَاقِي عَلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُزَارَعَةُ، فَإِذَا سَاقَى الْعَامِلُ عَلَى شَجَرٍ فِيهَا بَيَاضٌ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ فِي ذَلِكَ الْبَيَاضِ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ فَيُجَوِّزُهُ مَالِكٌ إذَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ، كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ لِلْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ قَلِيلًا لَا يُمْكِنُ سَقْيُ النَّخْلِ إلَّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَالنَّخْلُ قَلِيلًا وَفِيهِ لِأَصْحَابِهِ وَجْهَانِ، هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْجُزْءِ الْمَشْرُوطِ كَالثُّلُثِ، أَوْ الرُّبْعِ، فَإِمَّا إنْ فَاضَلَ بَيْنَ الْجُزْأَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ إنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ وَقَدَّمَ الْمُسَاقَاتِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، فَأَمَّا إنْ قَدَّمَ الْمُزَارَعَةَ لَمْ تَصِحَّ الْمُزَارَعَةُ وَجْهًا وَاحِدًا، فَقَدْ جَوَّزَا الْمُزَارَعَةَ الَّتِي لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ تَبَعًا لِإِجَارَةِ الْأَرْضِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ هُوَ قِيَاسُ أَحَدِ وَجْهَيْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِلَا شَكٍّ.
وَلِأَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ هَذَا هُمْ بَيْنَ مُحْتَالٍ عَلَى جَوَازِهِ أَوْ مُرْتَكِبٍ لِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ ضَارٍّ مُتَضَرِّرٌ، فَإِنَّ الْكُوفِيِّينَ احْتَالُوا عَلَى الْجَوَازِ تَارَةً بِأَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ فَقَطْ، وَيُبِيحَهُ ثَمَرَ الشَّجَرِ، كَمَا يَقُولُونَ فِي بَيْعِ التَّمْرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، يَبِيعُهُ إيَّاهُ مُطْلَقًا، أَوْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَيُبِيحُهُ إبْقَاءَهَا، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَتَارَةً بِأَنْ يُكْرِيَهُ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ، وَيُسَاقِيَهُ عَلَى الشَّجَرِ بِالْمُحَابَاةِ مِثْلُ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ لِلْمَالِكِ، وَهَذِهِ الْحِيلَةُ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا مَنْ يُجَوِّزُ الْمُسَاقَاةَ، كَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَا يُجَوِّزُهَا بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ إنَّمَا يُجَوِّزُهَا فِي الْجَدِيدِ فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، فَقَدْ اُضْطُرُّوا إلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ إلَى أَنْ يُسَمِّيَ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ، وَيَتَبَرَّعُ لَهُ إمَّا بِإِعْرَاءِ الشَّجَرِ وَإِمَّا بِالْمُحَابَاةِ فِي مُسَاقَاتِهَا، وَلِفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي إبْطَالِ الْحِيَلِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ هَذِهِ الْحِيلَةَ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ الْحِيَلِ - أَعْنِي حِيلَةَ الْمُحَابَاةِ فِي الْمُسَاقَاةِ - وَالْمَنْصُوصُ عَنْ

الصفحة 38