كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى بِالْمُسَاقَاةِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ يَرْضَى بِالْمُشَارَكَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ السَّوْدَاءَ ذَاتَ الشَّجَرِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ بِالتَّبَرُّعِ أَمْرٌ نَادِرٌ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَفْعَلُونَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَالِ أُسَيْدَ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ، فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ وَلَا أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِحِيلَةِ التَّبَرُّعِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي لِفِعْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا كَانَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَرْيِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَيْهَا، لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كَرْيِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ، وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ لَيْسَتْ بِطَائِلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «الْقَبَالَاتُ رِبًا» ، قَالَ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْقَرْيَةَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْعُلُوجُ، قِيلَ لَهُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَخْلٌ، وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ، قَالَ: لَا بَأْسَ إنَّمَا هُوَ الْآنَ مُسْتَأْجِرًا.
قِيلَ: فَإِنَّ فِيهَا عُلُوجًا قَالَ فَهَذَا هُوَ الْقُبَالَةُ مَكْرُوهَةٌ

، قَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ جَبَلَةَ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: «الْقَبَالَاتُ رِبًا» ، قِيلَ: الرِّبَا فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ، إنَّمَا يَكُونُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِأَجْلِ الْفَضْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فِي الْأُجْرَةِ وَالثَّمَرِ أَوْ نَحْوِهِمَا، إنَّهُ رِبًا مَعَ جَوَازِ تَأْجِيلِهِ فَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا؛ لِأَنَّ الرِّبَا إمَّا رِبَا النَّسَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا يَجُوزُ تَأْجِيلُهُ، وَإِمَّا رِبَا الْفَضْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا انْتَفَى رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ التَّأْجِيرُ، لَمْ يَبْقَ إلَّا رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا يَكُونُ إذَا كَانَ التَّقَبُّلُ بِجِنْسِ مَعْدِنِ الْأَرْضِ، مِثْلُ: أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا نَخْلٌ بِثَمَرٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ الْمُزَابَنَةِ، فَهُوَ مِثْلُ اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ بِجِنْسِ الْخَارِجِ مِنْهَا، إذَا كَانَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ، مِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَهَا لِيَزْرَعَ فِيهَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ.
فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ رِبًا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَهَذَا مِثْلُ الْقُبَالَةِ الَّتِي كَرِهَهَا ابْنُ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْأَرْضَ لِلْحِنْطَةِ بِحِنْطَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ، يَكُونُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ

الصفحة 42