كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

فَيَظْهَرُ الرِّبَا، فَالْقُبَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا رِبًا أَنْ يَضْمَنَ الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النَّخْلُ وَالْفَلَّاحُونَ، بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسٍ مِنْهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ قَرْيَةٌ فِيهَا شَجَرٌ وَأَرْضٌ وَفِيهَا فَلَّاحُونَ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَعْمَلُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالثَّمَرِ بَعْدَ أُجْرَةِ الْفَلَّاحِينَ أَوْ نَصِيبِهِمْ، فَيَضْمَنُهُ رَجُلٌ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالثَّمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا يَظْهَرُ تَسْمِيَتُهُ بِالرِّبَا، فَأَمَّا ضَمَانُ الْأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الرِّبَا بِسَبِيلٍ، وَمَنْ حَرَّمَهُ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ، ثُمَّ إنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ، إذَا كَانَتْ أَرْضًا بَيْضَاءَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْخَارِجِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ بِمَنْفَعَتِهِ وَمَالِهِ فَيَكُونُ الْمُغَلُّ بِكَسْبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ وَهُمْ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ الْعَمَلَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهَا شَيْئًا لَا بِمَنْفَعَتِهِ وَلَا بِمَالِهِ، بَلْ الْعُلُوجُ يَعْمَلُونَهَا، وَهُوَ يُؤَدِّي الْقُبَالَةَ وَيَأْخُذُ بَدَلَهَا، فَهُوَ طَلَبُ الرِّبْحِ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ صِنَاعَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ، وَهَذَا هُوَ الرِّبَا، وَنَظِيرُ هَذَا مَا جَاءَ عَنْ.
أَنَّهُ رِبًا، وَهُوَ اكْتِرَاءُ الْحَمَامِ وَالطَّاحُونِ وَالْفَنَادِقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ فَلَا يَتَّجِرُ فِيهِ، وَلَا يَصْطَنِعُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُهُ لِيُكْرِيَهُ فَقَطْ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ رِبًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رِبًا لِأَجْلِ النَّخْلِ، وَلَا لِأَجْلِ الْأَرْضِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ جِنْسِ الْمُغَلِّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ رِبًا لِأَجْلِ الْعُلُوجِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنَّ الْعُلُوجَ يَقُومُونَ بِهَا فَيَتَقَبَّلُهَا الْآخَرُ مُرَابَاةً وَلِهَذَا كَرِهَهَا أَحْمَدُ وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ إذْ كَانَ فِيهَا الْعُلُوجُ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ حَرْبٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ «بِمُعَامَلَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ، بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى إكْرَاءُ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ بِشَيْءٍ مَضْمُونٍ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الثَّمَرِ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ لَكَانَ إعْطَاءُ بَعْضِهِ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا أَصْلَانِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَ الشَّجَرِ أَرْضٌ أَوْ مَسَاكِنُ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى كِرَائِهِمَا جَمِيعًا فَيَجُوزُ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ غَرَرٌ يَسِيرٌ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبُسْتَانُ وَقْفًا أَوْ مَالَ يَتِيمٍ فَإِنَّ تَعْطِيلَ مَنْفَعَتِهِ لَا يَجُوزُ، وَاكْتِرَاءُ الْأَرْضِ أَوْ الْمَسْكَنِ وَحْدَهُ لَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اكْتَرَاهُ بِنَقْصٍ كَثِيرٍ عَنْ قِيمَتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْمُبَاحُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ، فَكُلَّمَا أَثْبَتَ إبَاحَتَهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إبَاحَةُ لَوَازِمِهِ إذَا

الصفحة 43