كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِأَجْلِ لَبَنِهَا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إجَارَةٌ مَنْصُوصَةٌ إلَّا إجَارَةُ الظِّئْرِ، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
وَلَمَّا اعْتَقَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ لَيْسَتْ عَيْنًا، وَرَأَى جَوَازَ إجَارَةِ الظِّئْرِ، قَالَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ وَضْعُ الطِّفْلِ فِي حِجْرِهَا، وَاللَّبَنُ دَخَلَ ضِمْنًا وَتَبَعًا كَنَقْعِ الْبِئْرِ، وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ اللَّبَنُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] وَضَمُّ الطِّفْلِ إلَى حِجْرِهَا إنْ فُعِلَ فَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْته مِنْ الْفَائِدَةِ الَّتِي سَتَخْلُفُ
مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ.
وَلَيْسَ مِنْ الْبَيْعِ الْخَاصِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُسَمِّ الْعِوَضَ إلَّا أَجْرًا لَمْ يُسَمِّهِ ثَمَنًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حُلِبَ اللَّبَنُ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمِّي الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إلَّا بَيْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْفَائِدَةَ مِنْ أَصْلِهَا، كَمَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ مِنْ أَصْلِهَا، فَلَمَّا كَانَتْ الْفَوَائِدُ الْعَيْنِيَّةُ يُمْكِنُ فَصْلُهَا عَنْ أَصْلِهَا، كَانَ لَهَا حَالَانِ: حَالٌ تُشْبِهُ فِيهِ الْمَنَافِعَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ حَالُ اتِّصَالِهَا وَاسْتِيفَائِهَا كَاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
وَحَالٌ يُشْبِهُ فِيهِ الْأَعْيَانَ الْمَحْضَةَ، وَهِيَ حَالُ انْفِصَالِهَا وَقَبْضُهَا كَقَبْضِ الْأَعْيَانِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الشَّجَرِ، هُوَ الَّذِي يَسْقِيهَا وَيَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى يُصْلِحَ الثَّمَرَةَ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ ثَمَرَةً مَحْضَةً كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ الْأَرْضَ وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا حَتَّى يُصْلِحَ الزَّرْعَ، فَإِنَّمَا يَبِيعُ زَرْعًا مَحْضًا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَجِدُ وَيُحَصِّلُ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَكَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ وَيُحَوِّلُ.
وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُمَا فِي النَّهْيِ، حَيْثُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ» ، فَإِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَحْضٌ لِلثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالِكُ يَدْفَعُ الشَّجَرَةَ إلَى الْمُكْتَرِي حَتَّى يَسْقِيَهَا وَيُلَقِّحَهَا وَيَدْفَعَ عَنْهَا الْأَذَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الْأَرْضِ إلَى مَنْ يَشُقُّهَا وَيَبْذُرُهَا وَيَسْقِيهَا، وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ، فَكَمَا أَنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِبَيْعٍ كَزَرْعِهَا، فَكَذَلِكَ كِرَاءُ الشَّجَرِ لَيْسَ بِبَيْعٍ

الصفحة 46