كتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية (اسم الجزء: 4)

وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَمِلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، لَوَسِعَتْهُمْ» .
وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ، وَيَجْلِبَ لَهُ الْمَنْفَعَةَ وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَكُلُّ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْحَيُّ مِمَّا تَسْتَرِيحُ بِهِ النُّفُوسُ، وَتَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي طِيبِهَا وَانْشِرَاحِهَا فَهُوَ مِنْ الرِّزْقِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُ ذَلِكَ لِمَنْ اتَّقَاهُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، وَمَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَيْسِرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ بِالْخَمْرِ، وَصَاحِبُ الْخَمْرِ يَطْلُبُ الرَّاحَةَ وَلَا يَزِيدُهُ إلَّا تَعَبًا وَغَمًّا. وَإِنْ كَانَتْ تُفِيدُهُ مِقْدَارًا مِنْ السُّرُورِ فَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَضَارِّ، وَيَفُوتُهُ مِنْ الْمَسَار أَضْعَافُ ذَلِكَ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ مَنْ جَرَّبَهُ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَيْسِرَ لَمْ يُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُحَرَّمًا، وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنْ الْمَيْسِرِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِي الْمَيْسِرِ، بَلْ فِي الْمَيْسِرِ عِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، كَمَا فِي الْخَمْرِ أَنَّ اللَّهَ قَرَنَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَجَعَلَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا هِيَ الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ هَذَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ تُحَرَّمْ لِمُجَرَّدِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، فَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ.
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ أَوَّلُ مَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وَالْمَنَافِعُ الَّتِي كَانَتْ قِيلَ: هِيَ الْمَالُ. وَقِيلَ هِيَ اللَّذَّةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ فِيهَا كِلَا هَذَيْنِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِثَمَنِهَا وَالتِّجَارَةِ، فِيهَا كَمَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِاللَّذَّةِ الَّتِي فِي شُرْبِهَا، ثُمَّ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَيْسِرُ كَانَتْ النُّفُوسُ تَنْتَفِعُ بِمَا تُحَصِّلُهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، وَمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ لَذَّةِ اللَّعِبِ.

الصفحة 466